بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 فبراير 2014

◘ أعمال’ بن غوريون في الماضي: جرائم أولاً ودائماً أنطـوان شلحـت

 صدر حديثًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – ‘مدار’ في رام الله العدد رقم 62 من سلسلة ‘أوراق إسرائيلية’ التي يشرف على تحريرها الكاتب أنطوان شلحت، ويحمل عنوان ‘دافيد بن غوريون- بنظرة
راهنة’. ويضم هذا العدد مجموعة مقالات حول دافيد بن غوريون، من أبرز الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل وأول رئيس لحكومتها، بأقلام كتاب وصحافيين وباحثين إسرائيليين، وذلك في مناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته التي صادفت في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وظهرت في شتى وسائل الإعلام الإسرائيلية.

هنا نصّ التقديم الذي كتبه محرّر السلسلة: 

يضم هذا العدد من ‘أوراق إسرائيلية’ مجموعة مقالات حول دافيد بن غوريون، من أبرز الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل وأول رئيس لحكومتها، بأقلام كتاب وصحافيين وباحثين إسرائيليين، وذلك في مناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته التي صادفت في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وظهرت في شتى وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وقد حاولنا أن نراعي فيها قدر الإمكان غاية رسم تقويم يكون في وسعه الإحاطة بإرث بن غوريون في معظم المجالات التي كانت له يد طولى في إرساء مرجعياتها، باعتباره في اعتراف جميع أصحاب المقالات هنا أكبر الزعماء السياسيين لإسرائيل الذي ما زالت شخصيته ‘الآسرة’ تحوم فوق جميع الأعمال التي نُفذت منذ إقامة الدولة ولا سيما في أثناء أعوام التأسيس التي تلت نكبة العام 1948 بما فيها خلال ذلك العام نفسه، وفي مقدمها عمليات الطرد الجماعية والتدمير المنهجي لمدن وبلدات وقرى الشعب العربي الفلسطيني والتي تسببت بتحويله إلى شعب من اللاجئين والقضاء على طموحه في إنشاء وطن قومي له في بلده.
وهذا ما يتطرّق إليه التحقيق الذي كتبه الباحث والمؤرخ الإسرائيلي شاي حزكاني حول الدراسة التي كان من المفترض بها أن تبرهن على أن العرب هربوا في العام 1948، وتوقف فيها عند موضوع تجنّد المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية لخدمة دعاية بن غوريون، وكيف أن هذا الأخير استدعى لدى أحد معاهد الأبحاث ‘دراسة أكاديمية’ تبرهن على أن العرب الفلسطينيين جميعاً هربوا طوعاً ولم يُطرد أحد منهم. 
ولعل أهم ما يثبته تحقيق حزكاني، كما يؤكد الصحافي الإسرائيلي الليبرالي جدعون ليفي في المقال الذي يعقّب فيه على هذا التحقيق، وكما يُستشف مما ورد في التحقيق عينه أيضاً، أن بن غوريون كان على علم مسبق بعمليات الطرد الجماعيّ. فقد كانت هناك- على حدّ قول ليفي- مدينتا الرملة واللد ومئة وعشرون قرية فلسطينية أخرى على الأقل جرى طرد سكانها بالقوة، وبواسطة أعمال ذبح وسلب، وكان هناك طرد جماعي بمقاييس تطهير عرقي في عدد من مناطق البلاد، وربما كانت هناك أيضاً عدة عمليات اغتصاب. وبطبيعة الحال كانت هناك عمليات تروم منع عودة أبناء البلاد الذين لاذوا بالفرار خشية من الحرب إلى بيوتهم. وعلى الرغم من أن قدراً غير قليل من المعلومات ما زال طيّ السرية التامة في الأرشيفات الإسرائيلية، فإنه لم يعد بمقدور أحد أن يزعم أن بن غوريون الذي كان شريكاً وسلطة عليا في أي شيء لم يأمر ولم يعلم أو على الأقل لم يوافق على الطرد والمذابح.
ومع ذلك، ينبغي أن نأسف للجوء جدعون ليفي إلى القول إن ما حدث في العام 1948 وفي الأعوام الأولى التي تلته يجب ألا ندرسه فقط من وجهة نظر نقدية ملائمة للعام 2013، فقد كانت إسرائيل- وفقاً لما كتب ‘تقاتل آنذاك دفاعاً عن وجودها وكان العالم أيضا مختلفاً. ومن الواضح أن هذه الأعمال لو وقعت اليوم لحظيت بتعريف جرائم حرب بصورة قاطعة، ولكان المسؤولون عنها يحاكمون في القدس [محكمة العدل الإسرائيلية العليا] أو في [محكمة العدل الدولية] في لاهاي’. 
برأينا فإن تلك ‘الأعمال’ هي جرائم أولاً ودائماً، على الأقل من الناحية الأخلاقية. 
ويعيدنا تحقيق حزكاني أيضاً إلى حقيقة أن إسرائيل ‘هي مجتمع تم إنتاجه من طرف نُخبه. ولذا فإن قوّة الدولة في اختراع الذاكرة القومية كانت عظيمة للغاية’، كما يقول الأديب والباحث الإسرائيلي إسحاق لاؤور في دراسته المتميزة ‘نكتبك يا وطن’ حول البدهيّ أو المسكوت عنه في الثقافة والأدب الإسرائيليين، مشيراً على وجه الخصوص إلى أن بن غوريون كان بارعاً جداً في هيكلة الذاكرة القومية وفي تخطيطها. وفي إطار ذلك عرف بالضبط ما الذي يرغب في أن يتم تذكره، وما الذي يرغب في أن يتم نسيانه. وسيرورة بناء ‘الأمة الإسرائيلية’ تضمنت وفرة من الأشياء التي ‘كان ينبغي نسيانها’ (مثلاً، لغة الييديش، وما تم ارتكابه بحق اليهود الشرقيين عندما جُلبوا إلى إسرائيل، وطرد الفلسطينيين)، وتضمنت وفرة من الأشياء التي ‘كان ينبغي تذكرها’، بدءاً بـ ‘الشعب المختار’ و’نور للأغيار’، مروراً بالآباء المؤسسين والهيكل الثاني وثورة بار- كوخبا، وانتهاء بتمرّد غيتو وارسو باعتباره مندوباً- تمثيلياً لذكرى الهـولـوكـوست.
ويشدّد لاؤور على أنه ما كان من الممكن أن يُكتب النجاح وإن بقدر نسبي لهذه الهيكلة من دون تجنّد النخب الإسرائيلية الأكاديمية والسياسية والثقافية لها، وبالتالي فإن جميع هؤلاء كانوا، في التحصيل الأخير، شركاء في مشروع أوسع بكثير أنيطت به مهمة إنتاج ‘الإسرائيلي’ باعتباره صاحب البلد في وعيه، ومن خلال محاولة أشد وأدهى في وعي من لم يُطرد أو أفلح في العودة أو حاول العودة من الفلسطينيين.
كما يشدّد على أن بن غوريون آمن بضرورة الصمت والتكتم لأنه كان مؤمناً بقوّة الكلمات في أن تكون موضع ذكرى ودراسة، وقوّتها في أن تكون حقيقة، ولذا لم يتكلم عن الطرد قطّ. ولذا أيضاً أعطى أمراً غير منطوق بطرد سكان اللد والرملة، وفقما تشير أغلبية الوثائق التي كُشف النقاب عنها من الأرشيف الصهيوني في الأعوام الأخيرة منوّهة بأن عملية الطرد هذه تمت في أواسط تموز/ يوليو 1948، في أوج الحرب التي دارت آنذاك بين جيش الإنقاذ وقوات الجيش الإسرائيلي، وبأنها كانت ‘أكبر عملية طرد’ في أثناء تلك الحرب. 
ولعل الأهم من ذلك أنها كانت- حتى بموجب تلك الوثائق- عملية طرد منظمة، ونُفذت بأوامر مباشرة من بن غوريون، وقد شهد على إصدار هذه الأوامر إسحاق رابين، الذي كان في حينه مسؤولاً عن تنفيذها وعمل تحت إمرة يغئال ألـون. 
وبحسب ما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، فإن رابين أملى على الصحافي الإسرائيلي دوف غولدشتاين، الذي ألف له كتاب مذكراته ‘سجل الخدمة’ الصادر في العام 1979، قطعة تتعلق بالأمر البن غوريوني الخاص بطرد سكان اللد والرملة، غير أن ‘اللجنة المسؤولة عن الرقابة على كتب كبار المسؤولين’ ارتأت شطبها من الكتاب. 
وقد وردت على لسان رابين في تلك القطعة المشطوبة الوقائع التالية: 
‘في غمرة المعارك التي كانت محتدمة اعترتنا الحيرة إزاء مشكلة مزعجة لم يكن في مقدورنا الاعتماد في حلها على أي تجربة سابقة، وهي: مصير السكان المدنيين، نحو خمسين ألف نسمة، في الرملة واللد. ولم يكن لدى بن غوريون أيضاً جواب، وخلال البحث في مقر قيادة العملية آثـر أن يلتزم جانب الصمت، جرياً على عادته في مثل هذه الوضعيات. وكان واضحاً بالنسبة إلينا أنه لا يجوز أن نبقي وراء ظهورنا جماهير اللد المعادية والمسلحة، وبذلك نهدّد بالخطر محور تزويد كتيبة يفتاح التي كانت تتقدّم نحو الشرق. وقد خرجنا من المقرّ مع بن غوريون، وكرّر يغئال ألون السؤال: ماذا نفعل بالسكان؟. وعندها أشار بن غوريون بحركة من يده كانت تعني الطرد’!.
وفي العام 2009 أصدر الباحث الإسرائيلي شاؤول فيبر كتابًا بعنوان ‘رابين- صعود زعيم’، لمح فيه إلى أن إيماءة اليد التي بدرت عن بن غوريون لاءمت رغبة كل من رابين وألون في تطهير اللد والرملة من سكانهما الفلسطينيين، وذلك لاعتقادهما بأن قوافل المطرودين من شأنها أن تعيق تقدّم الجيوش العربية نحو منطقة الوسط. 
ثمة ملاحظة أخرى يجب الإشارة إليها في هذه المقالات، وهي الواردة في مقال الأستاذ الجامعي يوسي يونـا. وهي ملاحظة تتساجل مع الكثيرين من مؤيدي ‘اليسار الصهيوني’ الذين يسعون حالياً لتجنيد بن غوريون لمصلحة نضالهم، ولذا فإنهم يشيدون به ويتحدثون عنه دائماً بصفته أحد الزعماء البارزين لـ ‘الصهيونية البراغماتية’. ودليلهم الأقوى أنه سوية مع حاييم وايزمان تصدرا التأييد للخطة التي صاغتها ‘لجنة بيل’ الملكية البريطانية في العام 1937 بشأن تقسيم فلسطين
ويؤكد يونا ما سبق أن أكدّه غيره أن بن غوريون كان براغماتياً لكن فقط بالمفهوم الضيّق للكلمة. وبكلمات أخرى، اعتبر بن غوريون أنه ينبغي أخذ ضرورات تلك المرحلة في الحسبان، وأنه يجب في البداية الموافقة على اقتراح البريطانيين، وتطبيق السيطرة على أقاليم البلد بموجب خطة التقسيم السالفة، وضمان الهجرة [اليهودية] المكثفة إليها، وعندها ينبغي العمل على تطوير السيادة اليهودية. لكنه تطلع بكل تأكيد إلى توسيع حدود الدولة اليهودية عندما يحين الوقت المناسب. 
ونجد مصداقاً لما يقوله يونا في سياق الرسالة التي كتبها بن غوريون إلى نجله عاموس بتاريخ 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1937، وكان هذا الأخير قد عاتبه على قبول ‘خطة بيل’. 
ومما كتبه بن غوريون في تلك الرسالة: ‘إنني لا أشعر مطلقاً بالإهانة من جراء إقامة دولة يهودية حتى وإن كانت صغيرة. أنا بالتأكيد لا أرغب في تقسيم الأرض. لكن هذه الأرض التي تُقسّم ليست في حيازتنا بالفعل. إنها في حيازة العرب والإنكليز. ونحن نملك منها جزءاً صغيراً فقط، أصغر من الجزء المقترح لإقامة دولة يهودية عليه. لو كنت عربياً لشعرت بإهانة كبيرة. ففي اقتراح التقسيم هذا سوف نحصل على أكثر مما نملك – علماً أنه أقل، وأقل بكثير، مما نستحقه ومما نريده. إلا إن السؤال المطروح هو: هل سنحصل بطريقة أخرى غير اقتراح التقسيم على أكثر من هذا؟ وإذا ما بقيت الأمور كما هي عليه الآن، فهل هذا من شأنه أن يرضي مشاعرنا؟ نحن لا نريد لهذه الأرض أن تبقى كاملة وموحدة، بل نريدها أن تكون أرضاً يهودية كاملة وموحدة. فأنا لا أشعر بأي رضى عندما تكون أرض إسرائيل كاملة لكن عربية. بالنسبة إلينا فإن الوضع الراهن عبارة عن سم قاتل، ونحن نريد تغيير الوضع القائم. فكيف لهذا التغيير أن يتم؟ وكيف لهذه الأرض أن تصبح لنا؟. إن السؤال المصيري هو: هل إقامة الدولة اليهودية تساعد أو تعرقل تحويل هذه الأرض إلى يهودية؟’.
هنا يصل بن غوريون إلى بيت القصيد فيقول: ‘أنا متحمس جداً لإقامة الدولة- حتى وإن كانت تلزمنا الآن الموافقة على التقسيم – لأنني أرى أن الدولة اليهودية المنقوصة ليست النهاية، بل هي البداية. نحن نفرح عندما نمتلك ألف دونم أو عشرة آلاف من الدونمات، ولا نشعر بالإهانة لأننا بهذا ما زلنا لا نملك الأرض كلها، لأن التملك مهم ليس فقط في حد ذاته، ولكن لأننا بواسطته نزيد من قوتنا، وكل زيادة في القوة تساعدنا على حيازة وتملك باقي الأرض. إن إنشاء دولة – حتى ولو كانت منقوصة وجزئية – يعتبر أقصى ما يمكن عمله لتعزيز قوتنا في المرحلة الراهنة، ويشكل رافعة قوية لجهودنا التاريخية من أجل تحرير كامل الأرض’.
ولا يجوز ألا نشير أيضاً إلى توكيد يونا أن صهيونية بن غوريون البراغماتية لم تحل دون ميله نحو منح الرواية التاريخية الصهيونية نزعة مسيانية جارفة على غرار معسكر اليمين وأيضاً على غرار عدد كبير من زملائه في قيادة حركة العمل. 
وبرأيه فإن هذين الأمرين [البراغماتية بالمفهوم الضيق والصهيونية المسيانية] يجعلان من الصعب على الذين ينتمون إلى ‘اليسار الصهيوني’ تجنيد بن غوريون وإرثه كمعين لهم في الخلاف العميق الراهن مع معسكر اليمين. 
على الصعيد الداخلي تقارن أغلبية المقالات بين ما ‘حلم’ به بن غوريون وبين ما هو حاصل في الواقع الإسرائيلي هنا والآن. 
وربما أن أكثر ما يلفت النظر في هذا الشأن تأكيد حفيد بن غوريون، الأستاذ الجامعي ياريف بن إليعازر، فيما يتعلق بتلاشي رؤية إسرائيل كـ ‘نور للأغيار’، وذلك على خلفية التآكل الأخلاقي والاعتماد على القوة وحدها من جهة، والظواهر العنصرية إزاء الآخر المختلف التي تثبت فشل نظرية ‘دمج الشتات’ في مقابل اتساع الشروخ والخلافات في المجتمع الإسرائيلي من جهة أخرى.
لكن يبقى السؤال الذي طرحناه أعلاه: هل هو مجرّد تآكل أخلاقـي، أم أن الأصل كامن في انعدام أي جانب أخلاقي في المشروع الذي حمله بن غوريون على عاتقه وقال عن نفسه إنه ‘رجل مهمة واحدة’ هي تطبيقه؟. 
‘ كاتب فلسطيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق