بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 فبراير 2014

إشكاليات التحول الديموقراطي في مصر- حسن نافعة

لم تتمكن النخبة المصرية حتى الآن، على رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع ثورة شعبية كبرى في كانون الثاني (يناير) 2011، من بناء نظام سياسي بديل للنظام الذي نجحت الثورة في إسقاط رأسه. بل إن الشعب المصري وجد نفسه في لحظة ما مضطراً إلى تفجير ثورة ثانية تمكنه من استعادة ثورته الأصلية من براثن جماعة كانت قد تمكنت من سرقتها في غفلة من الزمن. وعلى رغم عدم تردد قطاعات شعبية واسعة في التعبير عن تأييدها غير المشروط لخريطة الطريق التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة في 3 تموز (يوليو) الماضي، والتي تضمنت عزل الرئيس السابق محمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، إلا أن الخطوات التي تستهدف بناء سياسياً قابلاً للدوام والاستقرار لا تزال متعثرة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على تعثر عملية التحول الديموقراطي في مصر بسبب التحديات الهائلة التي تواجهها. فما أسباب هذا التعثر وطبيعة التحديات التي تواجه عملية التحول الديموقراطي في مصر؟

في تقديري أن هذا التعثر يعود إلى أسباب كثيرة ربما كان أهمها:

أولاً: طبيعة الثورة المصرية نفسها.

فهذه الثورة فجرها شباب ينتمون للشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، لكنهم لم يكونوا منخرطين في حزب سياسي معين وبالتالي لم تجمعهم بالضرورة رؤية أيديولوجية واحدة، على رغم اتفاقهم على مطالب موحدة تركزت حول «العيش والحرية والكرامة الإنسانية». ولأن الشعب المصري، على اختلاف طبقاته الاجتماعية وانتماءاته الفكرية والأيديولوجية، التف حول مطالب رأى فيها تعبيراً صحيحاً عن تطلعاته في تلك المرحلة، فقد كان من الطبيعي أن يتوحد هذا الشعب على قلب رجل واحد لإسقاط رأس النظام الذي حرمه لسنوات طويلة من حقه في «العيش والحرية والكرامة الإنسانية». غير أن التوحد حول مطالب من هذا النوع لم يكن كافياً وحده لضمان إدارة رشيدة في مرحلة ما بعد سقوط رأس النظام. فقد افتقدت الثورة المصرية منذ البداية زعامة سياسية قادرة على قيادتها، كما افتقدت بوصلة فكرية قادرة على توجيه حركتها خلال مرحلة انتقالية تعين خلالها إزاحة بقايا النظام القديم والتأسيس لنظام جديد يمكنه تحقيق الأهداف التي من أجلها قامت الثورة.

ثانياً: حالة التجريف السياسي التي كانت عليها مصر عقب ثورة يناير:

فقد شهدت مصر على مدى عقود طويلة، خصوصاً خلال العقود الثلاثة التي سبقت الثورة، حالة من التجريف السياسي والفكري أفقدتها معظم الأدوات التي تمكنها من بناء نظام سياسي متوازن، يحل محل النظام الذي أسقطت الثورة رأسه ويعبر عن مختلف الطبقات والتيارات صاحبة المصلحة في التغيير. فقد غابت الأحزاب السياسية القادرة على التعبير عن آلام الشعب وتضحياته في المرحلة التي سبقت الثورة وعن آماله وأحلامه في مستقبل أفضل بعدها. ولأن جماعة «الإخوان» بدت، في ظل حالة التجريف هذه، وكأنها القوة الأكثر تنظيماً وفاعلية على الأرض، فقد كان من الطبيعي أن تكون هي صاحبة الفرصة الأكبر في الفوز في أي انتخابات حرة نزيهة تجري في تلك اللحظة التاريخية الاستثنائية. ويبدو أن الشعب المصري كان مهيئاً في تلك اللحظة لمنح الجماعة ثقته، انطلاقاً من ثلاث فرضيات تبين في ما بعد أنها ليست صحيحة. الفرضية الأولى: أن هذه الجماعة لديها من الخبرات والكوادر السياسية والمهنية ما يؤهلها لحكم البلاد بطريقة أفضل. الفرضية الثانية: أن هذه الخبرات والكوادر سوف تكون بالضرورة، بحكم النشأة الدينية على الأقل، أقل فساداً من النخبة الحاكمة في ظل نظام ثار عليه الشعب. الفرضية الثالثة: أن من حق هذه الخبرات والكوادر التي لم تتح لها من قبل فرصة المشاركة في الحكم أن تُختبر، خصوصاً أنها تحملت القسط الأكبر من التضحيات في ظل نظام الفساد والاستبداد السابق. غير أن الشهور اللاحقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الافتراضات جميعها لم تكن في محلها، ما عرض الجماعة للرسوب في اختبار السلطة.

ثالثاً: النزعة الإصلاحية لدى المؤسسة العسكرية:

فلم يكن لدى المؤسسة العسكرية ما يكفي من الخبرة التي تؤهلها للتعرف بدقة إلى حقائق الوضع السياسي واتخاذ ما يلزم من القرارات في مرحلة ما بعد مبارك. ولأن هذه المؤسسة، وهي محافظة بطبيعتها وبحكم قيادتها المنتقاة بعناية من العناصر الأكثر موالاة لمبارك، لم تتحمس يوماً لمشروع نقل السلطة إلى ابن لم يكلف حتى بأداء الخدمة العسكرية ومحاط بمجموعة فاسدة من رجال الأعمال، فقد كان من الطبيعي أن تسلك منحى براغماتياً في التعامل مع حقائق الوضع السياسي الجديد. ولا جدال في أن هذا المنحى قادها إلى استنتاج مفاده أن اقتسام السلطة مع الجماعة الأكثر تنظيماً وقدرة هو الخيار الوحيد المتاح. وفي تقديري أن التصريح الذي أدلى به أحد قادة الجماعة في بداية تلك المرحلة مؤكداً عدم رغبتها في التقدم بمرشح للانتخابات الرئاسية، جاء في سياق تفاهم ضمني يقوم على اقتسام السلطة بين المؤسسة العسكرية والجماعة بحيث تحصل الجماعة على ما تستطيع من مقاعد البرلمان في مقابل ترك الموقع الرئاسي لشخصية يتم اختيارها بالتوافق. غير أن النتائج غير المتوقعة للانتخابات البرلمانية، والتي حصلت فيها الجماعة وحدها على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان أغرتها بالتحلل من هذا الالتزام، مما مهد للصدام بين الطرفين.

رابعاً: تعجل الجماعة في وضع مشروعها السياسي موضع التطبيق قبل أن تنضج الظروف الموضوعية:

فقد راحت الجماعة، بمجرد فوز مرشحها بالمقعد الرئاسي، تسعى بكل السبل المشروعة وغير المشروعة إلى تأكيد هيمنتها المنفردة على كل مفاتيح السلطة، وقامت بتهميش كل القوى التي شاركت في الثورة، متجاهلة بذلك حقيقة على جانب كبير من الأهمية وهي أن مرشحها فاز بنسبة 51.7 في المئة، وبفضل أصوات محسوبة على قوى الثورة من خارج تيار الإسلام السياسي كانت تخشى من وصول أحد رموز النظام السابق إلى المقعد الرئاسي. وحين اشتد عود المعارضة الشعبية لمشروع الهيمنة «الإخوانية» قررت الجماعة توثيق تحالفها مع بقية فصائل الإسلام السياسي واستبعاد الفصائل الأخرى، مسهمة بذلك في تعميق حالة من الاستقطاب بدأت تعرض البلاد لمخاطر حرب أهلية. وقد عكس مؤتمر «نصرة سورية»، والذي حضره الدكتور مرسي بنفسه وأعلن فيه قطع العلاقات مع سورية وتطوع فيه آخرون لإعلان الجهاد ضد النظام السوري وفتح باب التطوع وإمداد المقاتلين بالسلاح، من دون تشاور مسبق مع وزارة الخارجية المصرية أو مع المؤسسات المسؤولة عن الأمن الوطني في مصر، هذه الحالة الاستقطابية الحادة. ولا جدال في أن هذا المؤتمر كان بمثابة نقطة تحول في مسار الأحداث، حيث بدت مصر في تلك اللحظة بلداً مخطوفاً يواجه مصيراً مجهولاً.

في سياق ما تقدم، لم يكن غريباً أن تمر مرحلة التحول الديموقراطي في مصر بثلاث مراحل انتقالية مختلفة:

المرحلة الأولى: أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبدأت عقب تنحي حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) 2011، وامتدت حتى انتخاب مرسي في 20 حزيران (يونيو) 2012. وقد ارتكبت خلالها أخطاء هائلة، ربما كان أهمها رضوخ المجلس العسكري لمطالب الجماعة بإدخال تعديلات دستورية تتيح إجراء انتخابات برلمانية قبل صياغة دستور جديد للبلاد، مع تكليف البرلمان المنتخب باختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستتولى صياغة الدستور. وقد ترتب على هذا الخطأ الفادح ليس فقط تمكين جماعة «الإخوان» من الهيمنة على سلطة التشريع ولكن فتح الطريق أمامها أيضاً للهيمنة على السلطة التنفيذية ومن خلالها على كل مفاتيح السلطة في مصر، وتسبب في إرباك عملية التحول الديموقراطي برمتها.

المرحلة الثانية: أدارتها جماعة «الإخوان» وبدأت عقب فوز مرشحها بالمقعد الرئاسي في 30 حزيران 2012، وامتدت حتى 30 حزيران من العام التالي. وارتكبت الجماعة خلالها أخطاء فادحة، ربما كان أهمها إقدام مرسي على إصدار «إعلان دستوري» يمكنه من تحصين جمعية تأسيسية ومجلس شورى تسيطر عليهما الجماعة ومعرضين للحل بحكم قضائي، ومن ثم تمكين الجمعية التأسيسية بعد تحصينها من صياغة دستور مطعون في شرعيته، وتمكين مجلس الشورى بعد تحصينه من أداء وظيفة تشريعية لم يكن مؤهلاً لها ولم ينتخب أصلاً للقيام بها.

المرحلة الثالثة: وتديرها حالياً سلطة موقتة يتولاها رئيس المحكمة الدستورية العليا بحكم منصبه. وبدأت هذه المرحلة عقب إعلان وزير الدفاع «خريطة طريق جديدة» في 3 تموز (يوليو) 2013 ولا تزال مستمرة حتى الآن. وعلى رغم نجاحها في صياغة دستور جديد وافق عليه الشعب بغالبية أكبر من تلك التي حصل عليها دستور 2012، إلا أن الطريق نحو استكمال بناء مؤسسات النظام الجديد ما زال طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر. ويثير بروز «ظاهرة السيسي»، والتي تعكس حاجة الشعب المصري في هذه المرحلة إلى «بطل منقذ»، عدداً من الإشكاليات التي يصعب تجاهلها. فهل ينجح المشير السيسي في إنقاذ مصر فعلاً، أم سيكون توليه السلطة بداية أزمة من نوع جديد؟

هذا ما سنحاول أن نلقي عليه الضوء في المقال المقبل بعد أسبوعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق