بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 فبراير 2014

سطوة ألمانية توقظ أسئلة الحرب والدين والمجتمع فيكي حبيب

لم يتمكن «الاجتياح» الآسيوي لجوائز مهرجان برلين من حجب الأنظار عن «الهيمنة» الألمانية الواضحة على الدورة 64، والتي حققت فيها الأفلام الألمانية وتلك المنتجة بأموال ألمانية رقماً قياسياً في ما خصّ الحضور: 107 أفلام من أصل نحو 400 عرضت في الـ «برلينالي» بتواقيع ألمانية (توزعت بين إنتاج خاص أو إنتاج مشترك). 4 من أصل 23 فيلماً في المسابقة الرسمية آتية من ألمانيا و8 شــاركــت الـــدولـــة المضيفة للمهرجان في إنتاجها.
فهل هي عودة ألمانية الى «تمجيد» الذات؟ أم ان السينما الألمانية عادت الى سن رشدها؟ ام ان كل الحكاية ليست إلا ردّاً على الاتهامات التي تُوجّه عادة الى المهرجانات الأوروبية لناحية انبهارها بالسينما الأميركية؟

إذا كانت الجوائز مقياساً، فإن فوز السينما الألمانية بـ10 جوائز في أقسام المهرجان العشرة دليل على الازدهار السينمائي الكبير في هذا البلد الذي ينتج سنوياً نحو 200 فيلم ألماني تُطرح في الصالات.

ويكفي رئيس المهرجان ديتر كوسليك أن يحمل اثنان من الأفلام الفائزة بجائزتين رئيسيتين (المسابقة الرسمية) في هذه الدورة توقيع المانيا ليخفف عنه وطأة الانتقادات التي وُجّهت إليه في ما يتعلق بالسطوة الألمانية على المسابقة.

الفيلم الأول هو «درب الصليب» (فاز بجائزة الدب الفضي كأفضل سيناريو)، للمخرج الألماني ديتريش بروغمان الذي كان أحد المرشحين بقوة لنيل الجائزة الكبرى (الدب الذهبي).

والثاني «فندق بودابست الكبير» للمخرج الأميركي ويس اندرسون (فاز بجائزة الدب الفضي للجنة التحكيم الخاصة) الذي حمل معه الى العاصمة الألمانية فيلماً أميركياً بكل المقاييس، ومع هذا لألمانيا حصة فيه، بما انه صوّر في استوديوات بابلسبرغ الألمانية المشاركة في إنتاجه.

ومنذ العرض الأول لـ «درب الصليب» الذي يدنو من قضية شائكة في مجتمعاتنا الحديثة ونعني بها التطرف الديني ولكن المسيحي هذه المرة لا التطرف الإسلامي، راحت الأقلام ترجح فوزه بالجائزة الكبرى، وسرعان ما خفّت التوقعات مع عرض فيلم الأميركي ريتشارد لينكلايتر «صبا» الذي بدا أنه الأوفر حظاً ليتوّج في برلين، لكنّ لا هذا ولا ذاك كان له النصيب الأكبر، بل ذهب الدب الذهبي للصيني ديايو ينان عن «فحم أسود، ثلج رقيق».

وإذا كــان للــجنة التحكيم أهواؤها، فإن للنقاد وشركات التوزيع أهواءهم أيضاً، ولم يكن غريباً أن يتصدر فيلم «درب الصليب» الأفلام الأكثر توزيعاً في المهرجان لشركة «بيتا سينما»، إذ بيع الى عدد كبير من الدول، بينها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبولندا والبرتغال ويوغوسلافيا وهنغاريا واليونان...



خيبات

لكن، ما يُقال في «درب الصليب» لناحية الجودة الفنية والإجماع النقدي والجماهيري على أهميته، لا ينطبق على الأفلام الألمانية الأخرى المشاركة في المسابقة. ويأتي في مقدمة الخيبات فيلم عن التدخل الغربي في أفغانستان. ولا شك في انها «تيمة» استنزفتها السينما الأميركية كثيراً، إذ قدمت عشرات الأفلام عنها، بعضها نجح جماهيرياً فيما أخفق بعضها الآخر بوقوعه في دائرة مغلقة حيناً واستسهال أحياناً. ولعل فيلم «بين عالمين» (للمخرجة النمسوية فيو ألاداغ) الذي عُرض ضمن مسابقة الـ «برلينالي» باسم ألمانيا، ينتمي الى الفئة الثانية، فهو لم يقدم جديداً، حتى وإن صوّر الحرب الأفغانية هذه المرة من وجهة نظر ألمانية لا أميركية... وتحديداً من خلال العلاقة الإنسانية التي تجمع مترجماً أفغانياً مراهقاً بضابط في وحدة للجيش الألماني منتشرة في أفغانستان ضمن قوات «إيساف» التابعة للحلف الأطلسي، بهدف حماية إحدى القرى الأفغانية من هجمات «طالبان».

وعلى رغم نية المخرجة الحسنة في طرح علامات استفهام حول تعقيدات الواقع وجدوى التدخل الأجنبي، فإنها لم تنجُ من الوقوع في فخ قصة غرقت في السذاجة والسطحية ولم تتمكن من الغوص في الأعماق... بحيث لا وجود إلا للأخيار في الفيلم من الجنود الألمان الى المترجم الشاب المتعاون معهم ومسلحي القرية. أما «طالبان» فلا أثر لهم إلا عبر أحداث عرضية. ولعل في هذا ما يؤكد ان المخرجة لم تسع وراء إنجاز فيلم عن حرب أفغانستان بل فيلم عن عبثية التدخل الألماني في حروب الآخرين. وهذا ما اختصرته جملة أطلت من الشاشة على لسان احد الجنود الألمان: «ترى هل هناك جدوى من وجودنا هنا؟».



عائلات ممزقة

إخفاق آخر هو ذاك الذي سجله الفيلم الألماني «جاك» (للمخرج إدوارد برغر) الذي مرّ في المسابقة من دون أن يترك أثراً، بل ان نقاد مجلة «سكرين» مثلاً وضعوه في ذيل قائمة الاختيار.

وعلى رغم ما تحمله من إثارة قصة طفلين يهيمان في شوارع برلين بحثاً عن والدتهما غير ان المعالجة أخفقت في جعلنا امام فيلم طريق يرسم صورة اجتماعية عن عائلات ممزقة وضحايا صغار لا حول لهم ولا قوة.

إخفاق أقل كان من نصيب الفيلم الألماني «الشقيقتان المحبوبتان» (من إخراج دومينيك غراف) الذي، وعلى رغم ان أحد شخصياته الأساس ليس إلا المفكر والشاعر والفيلسوف الألماني فريديريك شيللر (1759- 1805)، فإن الفيلم لم يهتم بسرد سيرته أو دوره في الحركة الثقافية لذاك العصر، بمقدار اهتمامه بنزوات شيللر الغرامية. وهنا تطل العلاقة الثلاثية التي جمعته بالشقيقتين شارلوت وكارولين ليندفيلد اللتين تنتميان الى عائلة بورجوازية، تُعاني من متاعب مادية بعد وفاة رب العائلة أواخر القرن الثامن عشر، ما يدفع الأسرة لتزويج كارولين خلافاً لرغبتها من ثري يضمن للعائلة مستواها الاجتماعي. وطبعاً امام مثل هذه التضحية الكبيرة، ستجد الشقيقة الصغرى شارلوت نفسها مدينة لشقيقتها الكبرى، ولهذا حين تقع في غرام شيللر لا تمانع ان تتشاركه مع شقيقتها برضا وسعادة. وسرعان ما تنجح كارولين في إقناع والدتها بتزويج شيللر لشارلوت، أملاً بأن يعيش الثلاثة هذا الحب الخاص جداً. ولكن حين تكتشف كارولين أن شقيقتها لا تشارك زوجها سرير الزوجية، تاركة إياه لها وحدها، تقرر ان تبتعد عنهما. وهنا يعيش الزوجان حياة طبيعية لا تعكرها إلا عودة كارولين التي تنجرف وراء حبها لشيللر، ولكن هذه المرة من دون إعلام شقيقتها. ولهذا، حين تدرك شارلوت ما يحدث من وراء ظهرها، تشعر بخيانة كبيرة، لم تشعر بها حتى حين سلّمت زوجها طواعية لشقيقتها في الماضي. وسرعان ما يتحوّل الحب الكبير بين الشقيقتين الى كراهية لا مثيل لها.

واللافت ان هذه العلاقة، بغرائبيتها وعبثيتها، هي التي ستقود دفة الأدب في الفيلم، بحيث تنجرف على الشاشة الرسائل التي يتبادلها العشاق الثلاثة وتتوالى صفحات من كتابات شيللر وكتابات كارولين، التي تتحول وبتأثير من شيللر، الى روائية تنتظر كتاباتها فايمار كلها.

وعلى رغم ان مدة الفيلم تصل الى نحو 3 ساعات، إلا انه اكتفى بالإشارة السريعة الى رفيق درب شيللر، غوته، الذي قاد معه حركة «فايمار» التنويرية... فبدا التطويل في غير محله، خصوصاً ان المخرج ظل يدور في فلك العلاقة الغريبة بين الشقيقتين والشاعر الى درجة الملل.

أياً يكن الأمر، كانت هذه هي الأفلام الألمانية الرئيسة التي عرضت في دورة هذا العام لمهرجان برلين.

وبدا لافتاً تميز هذا الإنتاج الكثيف هذه المرة بمستوى عام يخرج بالسينما الألمانية مرة اخرى من نطاق الرغبات الترويجية التجارية ليضعها في موقع متقدم من اعمال سينمائية تتميز بتنوعها، سواء كانت داخل المسابقة او خارجها او حتى داخل المهرجان او خارجه. وهي عموماً، سينما تتّسم بمراوحتها بين السياسة والدين والأدب والمجتمع، ناهيك بالتصاقها بلغة سينمائية دائمة التجدد، ما يكشف - وبخاصة من خلال ما عرض منها في المهرجان - عن سينما تحاول دوماً العودة الى عصرها الذهبي، غير ناسية ان البلد الذي تنتمي اليه كان طوال ماضيه وطناً كبيراً للإنتاج الإبداعي في أزهى تجلياته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق