بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 25 فبراير 2014

الجزائر تـُنحر.. آخر نداء لإغاثتها توفيق رباحي

بعد ثلاث سنوات من ثورة الشعوب العربية على طغاتها في المشرق والمغرب، وفي ذروة غضب الشعب الأوكراني على قيادته ورئيسه، وفي وسط ثورة طلاب وعمال فنزويلا على حكومة شيوعية تُلقي كل اللوم في إخفاقاتها على الخارج، وبينما تختار إيطاليا رئيس حكومة ووزراء دون الأربعين.. وسط كل هذا يعلن رجل في الجزائر، عمره 77 سنة ومصاب بشلل نصفي ومختف عن شعبه وعن العمل العام منذ 22 شهراً، يعلن أنه مرشح لفترة رئاسية رابعة يتمّ بها عشرين سنة في الحكم.
لم يفاجئني ترشح الرجل، فأنا أخوض جدلا مستمرا منذ شهور مع زملاء وأصدقاء متابعين للموضوع، وقناعتي التي لم تتزحزح، هي أنه سيرشح نفسه (أو ترشحه العائلة والزمرة، لا يهمّ). يقولون: الجزائر تغيّرت، أقول: ومع ذلك سيترشح. يقولون: هي ليست جزائر 2004، أرد: سيترشح. يصرّون: أنت غادرت الجزائر إلى الخارج منذ 19 عاما وهي مختلفة اليوم، أرد: صاحبكم سيترشح.
لا هي قراءة كفّ ولا سحر، إنما نظرة هادئة لواقع منظومة الحكم في البلاد، والنفسية السياسية التي جاء بها الرجل في 1999 ولن تتغير ما دام فيه رمق حياة.
يجب أن نسجل أنه استجابة للغرور الذاتي الجزائري الذي يعشق أوصاف ‘الأكبر في إفريقيا’، و’الأوسع في العالم العربي’، و’الأولى في المغرب العربي’ .. إلخ، استجابة لهذا، ستكون الانتخابات الرئاسية التي ستجري في منتصف نيسان/ إبريل فريدة من نوعها في دفاتر السياسة الجزائرية والدولية: لأول مرة يترشح رئيس وهو مغيـّب بقوة قاهرة (عريس غائب عن عرسه). لأول مرة نشهد ترشيحا بالوكالة. لأول مرة يترشح رئيس بدون موافقة جهاز المخابرات. لأول مرة تعجز دوائر الحكم عن التوافق على رئيس. لأول مرة ينقسم نظام الحكم على نفسه، بسبب انتخابات رئاسية، بهذا الشكل الفجّ حتى تنابزت أطرافه بالشتائم من على منابر الصحف.
الآن وقد حدث ما حدث، واتجه الرجل بالبلاد وما فيها نحو حفرة سحيقة، لم يعدْ البكاء على كيف ومَن ولماذا. وليس مهمًّا كثيرا البكاء على صورة الجزائر أمام العالم، فالأهم بكثير هي الجزائر (لا صورتها) لشعبها وليس للآخرين. المطلوب قفزة وطنية تنتشل البلاد من هذا الانتحار الجماعي.
لن أدعو إلى حلّ على طريقة بن علي في تونس سنة 1987. ولن يسعدني كثيرا خروج (مشير عبد الفتاح) سيسي آخر في الجزائر، وهو غير موجود في كل الأحوال. ولا أمل لي في السياسيين، حكاما ومعارضة، في الخدمة أو في التقاعد. لقد فقدتُ الإيمان بهم منذ زمن طويل.
أخاطب من هذه المساحة ضمائر النخب المثقفة والفنانين في الداخل والخارج، والنقابات غير الملوثين بقذارة السياسة والولاءات الملعونة. الرجال والنساء الكثيرون مثل البروفيسور الياس زرهوني رئيس معاهد الصحة القومية الأمريكية، أعلى مرجع طبي في الولايات المتحدة، وصاحب وسام جوقة الشرف من الدولة الفرنسية، أعلى وسام في فرنسا. مثل أحلام مستغانمي التي تفتخر بلا توقف بأن وراءها جيشاً (من القراء) تعداده الملايين. مثل الروائي محمد مولسهول الذي تـُرجمت أعماله لأكثر من عشر لغات ويكتسح الجوائز حيثما حل. مثل آسيا جبار، أول عربية وخامس امرأة عضو في الأكاديمية الفرنسية والمرشحة لنوبل الآداب في 2005. مثل رشيد بوجدرة الشيوعي الحائر منذ الأزل وإلى الأبد. مثل واسيني الأعرج المبدع في الأدب والمفلس في السياسة. مثل فضيلة الفاروق صاحبة الروايات الجريئة. مثل المخرج السينمائي المثير للجدل مرزاق علواش. مثل الكوميدي المبدع محمد فلاق. مثل الموسيقي العالمي صافي بوتلة. مثل المطربة الملتزمة سعاد ماسي. مثل المطرب الأمازيغي المتمرد لونيس آيت منقلات.
قائمة طويلة من الأسماء لا تتسع لها هذه المساحة، اخترتُ في أغلبها المقيمين بالخارج لأنهم لا يحتاجون لبوتفليقة ونظام حكمه بقدر ما يحتاج هو إليهم. لأنهم ليس لديهم ما يخسرون من غضب الحكم عليهم غير عشاء رسمي عابر، أو تكريم وزاري أصغر من مقامهم أصلاً. لأنهم ذاقوا واستمتعوا بنسائم الحرية والاستقلالية والتعبير الحر. لأنهم عايشوا التجارب السياسية في الغرب التي من المفروض أنها تجعلهم يغارون ويتحسَّرون على ما يجري في بلادهم.
هؤلاء وغيرهم، وكل من يستطيع إلقاء حجر في في تلك البركة الظالمة المظلمة، مـُطالبون بوضع خلافاتهم السياسية والأيديولوجية على الرفِّ مؤقتا، وإعلان موقف يذكره لهم التاريخ. ليس مطلوبا منع بوتفليقة من الترشح، ربما الأفضل تركه، ومن معه، يمضي في مغامرته المجنونة لأنها تسيء له أولاً وأخيراً. وليس المطلوب إستنساخ الثورة الفرنسية أو ربيع براغ الأسبوع المقبل. المقصود هو في ما بعد ذلك، وكل ما هو مأمول زرع بذور يقظة الجزائر في أشد الحاجة إليها.
هل يـُعقل أن ‘يستقيل’ كل هؤلاء الرجال والنساء ولا يبقى في صف الرفض والاحتجاج غير علي بلحاج في الداخل والمحامي سعد جبار والدبلوماسي السابق العربي زيتوت في الخارج؟
لا أحد سيصدّق أنهم غافلون عن الذي يجري في الجزائر. ولا أحد سيصدّق أنهم غافلون عن أن سقوط الأصنام في تونس ومصر واليمن في 2011 تحقق بتضحيات وصبر نادرين.
تونس هي ثمرة عقدين من الصمود والمقاومة السلمية تعرَّض خلالها محامون وقضاة وصحافيون ونقابيون، رجال ونساء، للمنافي وكل أنواع التنكيل بهم وبعائلاتهم وبأرزاقهم.
وفي مصر كانت ثمرة جهود شباب مغمورين بدأوا وحيدين يسخر منهم العابرون في الشارع، وشيئا فشيئا اتسعت الثقة فيهم والإيمان بهدفهم، فتبناهم المجتمع وتحقق لهم ما أرادوا.
ولا يختلف الأمر في اليمن الذي لم يمنع الفقر وضيق الحال شبابه من الصمود شهورا طويلة أثمرت اقتلاع رئيس ما كان ليسلم كرسيه إلا إلى القبر.
وفي التاريخ البعيد، لم تكن ثورة تشرين الثاني/نوفمبر الجزائرية في 1954 ثمرة قرار اتخذه أحدهم بعد أن استيقظ من النوم. بل كانت عصارة عقود من النضال والصبر والتجارب المؤلمة، ثم فجّرها رجال قليلون لا سلاح لهم إلا إيمانهم بأنها يجب أن تبدأ ليتحقق شيء، مثل شعار المغامرات: كي تربح يجب أن تلعب أولاً.
لا أتصوّر أن النخب الجزائرية، المذكورة في هذا المقال وغير المذكورة، ستحتاج إلى أسباب أقوى وأكثر مما نرى، لكي تعلن موقفا أو تبادر إلى شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق