بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 13 أغسطس 2014

«سرقة القطار الكبيرة» لإدوين بورتر: حضارة قطّاع الطرق - ابراهيم العريس

في كتابه الذي كان واحداً من أوائل المؤلفات الجدية والشاملة التي أرّخت لفن السينما يقول الباحث لويس جاكوب، في معرض الحديث عن المخرج الأميركي إدوين إس. بورتر: «إذا كان الفرنسي جورج ميلياس، أول من وجّه الفن
السينمائي على درب المسرح، فإن الأميركي إدوين إس. بورتر كان أول من وجه هذا الفن على درب السينما نفسها. فإدوين إس. بورتر هذا كان أول من اكتشف أن الفن السينمائي ينتمي أولاً إلى فن التقطيع (التوليف) الذي يمكن اعتباره اليوم القاعدة الأساسية لهذا الفن»، ما يعني في رأي جاكوب هذا أن بورتر سبق غريفيث والروسي سيرغاي إيزنشتاين إلى «اكتشاف علاقة التوليف بالسينما باعتباره لغتها الأساسية التي تميزها عن كثير من الفنون الأخرى، لا سيما فن المسرح، وهذه ملاحظة لم يأخذها كثر من مؤرخي الفن السينمائي في الاعتبار لأسباب تبدو غامضة، ما يغمط بورتر حقه بالتأكيد. وهو حق لا شك تعيده إليه مشاهدة أفلامه نفسها على أية حال.

> صحيح أن معظم أفلام إدوين إس. بورتر قد يبدو لنا مضحكاً ومثيراً للسخرية اليوم، بمواضيعه البسيطة، وتقنياته الساذجة (وينطبق ذلك، بخاصة، على فيلمه الذي نحن في صدده هنا «سرقة القطار الكبيرة»)، غير أن أهمية هذه الأفلام لا يمكن إنكارها من حيث ريادتها، ومن حيث إنها أسست لأنواع سينمائية كثيرة خاطبت عقول الناس ولكنها خاطبت قبل ذلك، غرائزهم من دون أن ننسى مخاطبتها عواطفهم، كما لا تزال تفعل حتى الآن في كل مرة يعرض فيها واحد من أفلام الرجل، وكانت تلك الأفلام على أية حال من الأعمال التخييلية الأولى التي اكتشفت أن الكاميرا يمكنها أن تصور شيئاً آخر غير ما يجري حقيقة في الحياة، وأن ما تصوره الكاميرا يمكنه بعد اشتغال فني عليه أن يتحول إلى رؤى ومشاهد لا تقلد الحياة، بل تصبح حياة أخرى توازيها. من هنا، وانطلاقاً من هذا التعامل السينمائي مع الحياة، ما يقال عادة - بخاصة في دراسات علم الاجتماع - من أن السينما، من أميركية وغير أميركية، اشتغلت طوال قرن من الزمن على «خلق طبيعة ثانية للمتفرج». وهذا الدور الأساسي الذي لعبته السينما في حياة هذا المتفرج، انطلق أصلاً من التقنيات التي صاغت اللغة السينمائية، وكذلك من ذلك الاشتغال على ابتكار الأنواع السينمائية، مثل نوع رعاة البقر، ونوع الدراما، والنوع التشويقي والنوع التاريخي... وما إلى ذلك. ولئن كان ميلياس (الفرنسي) اعتبر مؤسس نوع الخيال العلمي، ولئن كانت السينما الإيطالية (بخاصة مع «كابيريا» لجيوفاني باستروني)، اعتبرت قبل الأميركي غريفيث، مبتكرة نوع السينما التاريخية، فإن إدوين إس. بورتر، كان من دون جدال خالق نوع سينمائي ارتبط من ناحية بتشويق المطاردات، ومن ناحية ثانية بعالم رعاة البقر.
> صحيح أن فيلم إدوين إس. بورتر «سرقة القطار الكبيرة» لم يكن الفيلم الأول الذي تحدث عن رعاة البقر هؤلاء، محولاً إياهم إلى تلك الأسطورة المتواصلة التي نعرف، والتي ارتبطت إلى حدّ كبير بالتاريخ الأميركي، كما أنه لم يكن الفيلم التخييلي الأميركي الأول، لكنه كان الفيلم الكبير والمهم الأول الذي يحقَّق في هذا المجال، حيث إنه عرف كيف يلخص الأعمال القليلة التي سبقته ويخلق للأفلام التالية المنتمية إلى النوع نفسه والكثير من الأنواع الأخرى المتفرعة منه، قوانينها التي ولدت على يديه ولا تزال سارية حتى يومنا هذا.
> حقق بورتر فيلم «سرقة القطار الكبيرة» في عام 1903، أي بعد ثمانية أعوام من الولادة الصاخبة لفن الصورة المتحركة، وفي العام التالي لولادة السينما الروائية على يد الفرنسي جورج ميلياس. وبورتر استقى موضوع فيلمه من مناخ مسرحي أميركي كان منتشراً في طول أميركا وعرضها في ذلك الحين: مناخ ينقل إلى خشبة المسرح مغامرات رعاة البقر، وعصابات قطاع الطرق، والصراع بين المجتمع والخارجين على القانون، في زمن كان العالم الأميركي يتأسس. في ذلك الحين كان أولئك الأفاقون هم الأشرار (في زمن لاحق ستلصق السينما وغيرها من الآداب والفنون، الشرّ بالهنود الحمر ثم بالسود، ثم بالجنوبيين قبل أن تصل في أزمان أقرب إلينا إلى الشرق أوسطيين وما إلى ذلك، لكن هذه حكاية أخرى)، كذلك فإن بورتر أفاد من أخبار الجرائم الكثيرة التي كانت الصحف تكثر من نشرها وتتفنن في وصف مرتكبيها. هكذا، حين نقل ذلك المناخ إلى «الشاشة الفضية» (أو «نايكل أوديون» كما كانت تسمى عند ذاك) لم يكن يقدم جديداً طارئاً على الحياة الأميركية. كان فقط يجدّد في فن السينما. ولقد كانت تجديداته في ذلك المجال متنوعة: فهو كان من أوائل الذين استخدموا اللقطة البانورامية لخلق تأثير درامي، ومن أوائل الذين وصلوا إلى رسم البعد التشويقي من طريق التقطيع. لكن الأهم من هذا، أن بورتر، في اللقطة المكبرة التي صوّر فيها الشرير في فيلمه وهو ينظر ناحية الجمهور مهدداً، إنما مهد لاستخدام الروسي إيزنشتاين لاحقاً، اللقطة المكبرة كمؤثر درامي أساسي في فيلمه «الدارعة بوتمكين».
> ونحن اليوم إذ نشاهد صورة الشرير على تلك الشاكلة وهو يتوجه إلى الجمهور بصورة مباشرة، لا ريب سيقفز واحد من قوانين البريختية إلى أذهاننا. فالحال أن بورتر، إذ شاء أن يرعب متفرجيه، عبر لغة تشويقية حقيقية، بفعل تلك اللقطة، تمكن من أن يفعل العكس: نبههم، عبر «تغريب» بدائي، إلى أنهم إنما يشاهدون حكاية مصوّرة لا أكثر. ومع هذا، لطالما أرعبت تلك اللقطة المتفرجين وشوّقتهم، ودفعتهم بالتالي بالملايين إلى الصالات المظلمة، ما أدى في شكل منطقي، وبفضل ذلك الفيلم (ولغته) تحديداً، إلى إنشاء صالات جديدة بسرعة، لتستوعب تدفقهم المدهش.
> في عرف تلك الأيام المبكرة، كان «سرقة القطار الكبيرة» يعتبر فيلماً طويلاً (240 متراً). وهو في أمتاره تلك التي تجعله في أيامنا هذه فيلماً قصيراً، قدّم حكاية سريعة ومتلاحقة حول عصابة من قطاع الطرق تتآمر لسرقة قطار، فتوزع المهام بين أعضائها: مجموعة تتولى إرغام عامل اللاسلكي في المحطة على مطالبة سائق القطار بتوقيفه وسط البراري القاحلة والخالية من الناس، ومجموعة أخرى تتولى مهاجمة القطار ما إن يقف فتقتل حارس عربة البريد، ثم تهاجم الركاب ناهبة كل ما يحملونه. وحين يحاول واحد من هؤلاء الركاب الهرب، يطلق اللصوص النار عليه ويردونه قتيلاً. إثر ذلك، وبعد أن ينتهوا من مهمتهم، يسرع رجال العصابة إلى خيولهم التي كانوا خبأوها وسط الجبال القريبة، محاولين الهرب. ولكن - لسوء حظهم - يكون عامل المحطة قد أوصل الإنذار إلى الجميع، فيستنفر القرويون أنفسهم وأسلحتهم وجيادهم ويطاردون اللصوص القتلة، لينتهي الأمر بمعركة عنيفة وصاخبة، يُقضى فيها على اللصوص، وينتصر الخير على الشر.
> على رغم أن بورتر جعل مسرح حكايته، مناطق البراري والجبال التي يفترض أن تكون بعيدة إلى الغرب، نعرف أنه صوّر الفيلم كله في ضواحي نيويورك (بين نيوجرزي وبترسون) متنقلاً بين ديكورات طبيعية محدودة الحجم وديكورات بناها في الاستوديو. فهو لم يكن الفضاء ما يهمه، بل الحركة والتقطيع، ومن هنا جاء فيلمه «الواقعي» هذا حافلاً بضروب الخداع التي ستطغى على السينما لاحقاً. كما أنه حرص على أن يصبغ بعض مشاهد الفيلم بصبغة واقعية (مشهد العيد القروي الذي يقطعه انتشار نبأ السرقة، ووجوم القرويين)... إلخ.
> إدوين إس. بورتر الذي يعتبر بفضل فيلمه هذا، من مؤسسي اللغة السينمائية، وسينما الحلم الأميركي، ولد عام 1870 في بيتسبرغ. وهو بدأ العمل السينمائي في صباه مشتغلاً في فريق توماس إديسون (الذي يمكن اعتباره المؤسس الحقيقي للفن السينمائي). ثم أخرج الكثير من المشاهد التسجيلية، قبل أن يحقق واحداً من أشهر أفلامه الأولى: «حياة إطفائي أميركي» الذي أتبعه بـ «سرقة القطار الكبيرة»... وهو واصل عمله بعد ذلك، لكنه لم يحقق لاحقاً أي نجاح يمكن التوقف عنده. وحين رحل عن عالمنا في عام 1941، كان مجرد جزء من التاريخ المتحفي لفن السينما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق