بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 أغسطس 2014

مصرفي «منقذ» - علي بن طلال الجهني

تم انتخاب المرشح الديموقراطي غروفر كليفلاند Grover Cleveland رئيساً لأميركا في انتخابات 1884، وأدى القسم في الرابع من الشهر الثالث من 1885.
كان رجلاً مصلحاً، أقرب ما يكون إلى ما يسمى اليوم بـ «الليبرتاينيين»، أي المحافظ من النواحي المالية والمؤمن بأهمية الحريات الفردية. وكان رئيساً محبوباً تولى الرئاسة مرتين غير متتاليتين، من 1885 إلى 1889، ومن 1893 إلى 1897. وذلك لم يحدث لا من قبل ولا من بعد.
وفي بداية رئاسته للمرة الثانية حدث ما يسمى «رعب» 1893 الذي سببه التوسع غير المسؤول في صناعة سكك الحديد التي تم تمويل توسعها بطرق ملتوية أخفت كثيراً من الغش، ما سبب اندفاع الناس إلى التخلص مما لديهم من دولارات ورقية لاستبدالها بالذهب، فحدث كساد استمر بين 1893 و1896، ولم تقلّ وطأته عن أول كساد يمر به الاقتصاد الأميركي منذ ولادة الولايات الأميركية في عام 1873.
واجه الرئيس المصلح والإداري الصارم كليفلاند أزمة اقتصادية حقيقية، إذ صادف حدوث الكساد في أول عام بعد أدائه القسم بأسابيع معدودة في فترة رئاسته الثانية التي بدأت في الشهر الثالث من 1893.
وفي كانون الثاني (يناير) من 1895، أي بعد أقل من عامين من أداء الرئيس القسم، أخبره وزير الخزانة أن احتياطات الذهب التي كانت تغطي عملة الدولار الورقية بنسبة 100 في المئة قد تضاءلت إلى ما يساوي 68 مليون دولار فقط. وبعد أسبوع تضاءل الاحتياط من الذهب إلى 45 مليوناً، وبعد أسبوعين آخرين استمر انخفاض الاحتياط إلى 10 ملايين، بسبب الرعب الذي سببه الكساد واندفاع كل من لديه دولارات ورقية من منشآت كبرى وصغرى وأفراد إلى «غارات» متتالية لتعويضهم عن دولاراتهم الورقية ذهباً خالصاً.
في وقتها لم يكن قد تم إنشاء البنك المركزي الأميركي، أو ما سموه بنك الاحتياط الفيديرالي ليسعى إلى اقتراض ما يكفي، لتطمين من أرعبهم الكساد. ولزيادة الأحوال سوءاً كانت الخزانة الأميركية قد التزمت لكل من يريد استبدال دولاراته بالذهب، وستفي بوعدها وسيعوض من يريد بدلاً من دولاراته الورقية ذهباً.
فاقترح وزير الخزانة على الرئيس كليفلاند إصدار سندات أو صكوك، ومعناهما اقتصادياً واحد، بمبلغ 60 مليون دولار.
وعندما تساءل الرئيس ومن سيشتري السندات فيوفر مبلغ الـ60 مليوناً المقترحة، كان الجواب أن الشخص الوحيد القادر على تدبير قرض بمبلغ كبير نسبياً في ذلك الوقت هو شيخ أباطرة مصارف الاستثمار، المدعو جاي. بي. مورغن J.P.Morgan، غير أن الرئيس لم يكن على وفاق مع مورغن بسبب طريقة استغلاله الكساد وانهيار الأسهم، ليسيطر على المصارف الضعيفة وصناعة سكك الحديد وغيرها، بمسمى «شركة قابضة» وبوسائل مضللة وأحياناً مشبوهة.
اضطر الرئيس إلى عملٍ لا بد منه، ودعا مورغن إلى المكتب الرئاسي في البيت الأبيض، وكأن لسان حاله يعكس ما قاله المتنبي قبل كساد 1893 بنحو ألف عام:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ
فلا بد من إنقاذ خزانة الدولة، فإما الاقتراض وإما إعلان الإفلاس. نعم إفلاس الدولة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها كافة، وأهمها تعويض حاملي الدولارات الورقية بالذهب.
لكن مورغن الذي كان الرئيس يشك في أخلاقياته، فاجأ الرئيس وقال له إن بإمكانه تدبير 100 مليون وليس فقط 60 مليوناً، كما قدّرت وزارة الخزانة.
أصبح مورغن فارساً أنقذ الدولار، بل الدولة بكاملها، لا مستثمراً مراوغاً مشبوهاً. في تلك اللحظة قدّم مورغن المصلحة الوطنية التي اشتركت مع المصلحة الخاصة، فلو انهار الدولار لانهارت ثروة مورغن أيضاً.
ولكن قدرته على بيع جميع السندات التي أصدرتها الخزانة، وتوفير مبلغ 100 مليون للخزانة، وبعائد بالطبع، لم يمنعه من استمراره في الاستحواذ على كل شركة انخفضت أسعار أسهمها بسبب توسعها السريع أو لأي سبب آخر، من صناعات ونشاطات اقتصادية شتى من دون خوف من أي تدخل حكومي. وهو الذي مارس شراء ذمم الساسة من قبل، سواء كان منفرداً أو مع أثرياء محتكرين آخرين.
وكان يستحوذ على الشركات، ويبدأ بتسريح المئات أو الآلاف أو أكثر أو أقل بحسب الأحوال، من دون أن يعوضهم. بل إنه يزيد ساعات العمل على من تبقى من دون زيادة في الأجور.
كان الساسة لا يجهلون قسوته، ولكنهم يخشون سخطه، وما يتبع سخطه من عقاب.
وهو الذي بالتعاون مع زميليه جون دي. روكفلر، وآندرو كارنغي استطاعوا شراء الرئاسة في انتخابات 1896، عندما أوشكت فترة الرئيس كليفلاند على الانتهاء، من طريق تبرع الأباطرة الثلاثة بمبلغ 600 ألف دولار أو ما يزيد على بليون في وقتنا الحاضر، لمصلحة المرشح الجمهوري ماكنلي Mckinley ضد المرشح الديمووقراطي الشعبوي براين Brayn، الذي كان يهدد الثلاثة علناً وبأسمائهم لو تولى الرئاسة بإصدار تشريعات تقضي على احتكاراتهم.
لكن طرأت على الأباطرة الثلاثة مشكلة من رجل انحدر من أسرة عريقة ثرية تعود إلى أقدم المهاجرين إلى مدينة نيويورك حينما كانت تسمى «أمستردام الجديدة» بسبب كثرة المهاجرين الهولنديين إليها والاستقرار فيها.
كان هذا الرجل حاكماً لولاية نيويورك، ويدعى ثيودور روزفلت Theodor Roosvelt الذي كان بإمكانه أن ينافس أثرى الأثرياء لو اتجه إلى الأعمال الخاصة كما فعل أجداده، لكنه اختار الخدمة العامة، وتدرج في المناصب السياسية في ولاية نيويورك حتى أصبح حاكماً (أو محافظاً) لأكبر ولاية أميركية حينئذٍ.
ومع أن ثيودور روزفلت ينتمي إلى الحزب الجمهوري، استطاع استصدار تشريعات لمحاربة الاحتكار على مستوى الولاية. وذلك أدى إلى اشتهاره على المستوى الوطني وإمكان فوزه في الانتخابات الأولية بين الجمهوريين لاختيار مرشحهم للرئاسة.
وهذا أدخل الرعب إلى قلوب مورغن ورفاقه، فبذلوا كل جهد لإقناع مرشحهم ماكنلي باختيار روزفلت نائباً للرئيس. وهم يدركون أن منصب نائب الرئيس في أميركا لا أسنان له ما دام الرئيس حياً يرزق.
ولكن تشاؤون ويشاء الله ما يريد.
تولى ماكنلي الرئاسة، وأدى القسم هو ونائبه ثيودور روزفلت في أوائل 1897. وفي 1901 تم اغتيال الرئيس ماكنلي، فصار روزفلت أوتوماتيكياً الرئيس. بل وفاز في انتخابات الرئاسة مرتين في ما بعد، واصبح يعدّ من أعظم رؤساء أميركا.
وما كان يخشاه مورغن وروكفلر وكارنغي وأمثالهم حصل، فصار حاكم ولاية نيويورك السابق رئيساً.
رفع الرئيس ثيودور روزفلت القضايا في المحاكم الفيديرالية التي تشمل قراراتها كل الولايات، ضد شركة مورغن «القابضة» وضد شركة روكفلر المحتكرة التي سماها «ستاندر أويل»، فكسبت وزارة العدل القضايا وتم تفتيت شركة مورغن القابضة وتقسيم شركة روكفلر للنفط إلى 22 شركة.
واستطراداً، فإن الرئيس فرانكلين روزفلت الذي تم انتخابه رئيساً في 1932 بعد الكساد المريع في أواخر 1929، لا يلتقي مع الرئيس ثيودور روزفلت الذي كان رئيساً ما بين 1901 و1909، إلا في الجد السادس.
ومع أن كليهما كان حاكماً متنوراً تقدمياً لولاية نيويورك، فقد كان ثيودور ينتمي إلى الحزب الجمهوري كبقية الأثرياء في مستهل القرن الماضي، أما فرانكلين فكان ديموقراطي الانتماء متعاطفاً مع ضعفاء الحال. وبالطبع كلاهما ينحدر من أسرة واحدة من أصول هولندية من أقدم المهاجرين الأوروبيين إلى مدينة نيويورك.
* أكاديمي سعودي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق