بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 أغسطس 2014

غزة ومصر… علاقة لها تاريخ… اختلط فيها الخاص بالعام! محمد عبد الحكم دياب

إن «محرقة غزة»، بكل ما صاحبها من إبادة جماعية وتدمير المساكن والمرافق والخدمات؛ بما فيها مدارس الأمم المتحدة، لم تفرق بين طفل وإمرأة وكهل ومريض أو معاق. ولا أضيف جديدا إذا ما قلت أن هذا ديدن الوحشية الصهيونية، فالإرهاب النفسي والترويع البدني، والقتل دون تمييز؛ أساليب إرهابية لبث الذعر وإفراغ الأرض من ساكنيها، وذلك الميراث مكن الرجل الأبيض من استيطان «العالم الجديد» والتخلص من سكانه الأصليين، وأسس لجرائم وقفت وراء نشأة الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها، وبذلك ترسخ نهج «الإبادة الدورية»؛ لتغيير طبيعة ومعالم كثير من مناطق وأقاليم العالم، وذلك لتعظيم مصالح الغرب، ومن ذلك الرحم المعطوب والدموي ولدت الحركة الصهيونية، واتخذت فلسطين نقطة ارتكاز لمشروعها التوسعي العنصري.
وما كان الاستيطان اليهودي في فلسطين ليحدث دون تحصين وحماية غربية استعمارية، أدركت مبكرا حاجة هذا المشروع العدواني إلى أساطير وأوهام تغذيه، ويتم توارثها جيلا بعد جيل، كأسطورة «شعب الله المختار» و»الوعد الإلهي بأرض الميعاد» وأوهام الحقوق الدينية والتاريخية لليهود فيها، وحق مصادرة أرض تدعي الأساطير والأوهام أنها بلا شعب، وعلى العالم أن يمكن اليهود منها بدعوى أنهم بلا أرض، وعليه اتسعت الأرض المستهدفة بالاغتصاب والشطب فشملت الوطن العربي؛ من شاطئ الأطلسي غربا حتى مياه الخليج العربي شرقا.
هذا الحيز الجغرافي اعتمده الغرب مكانا مختارا لبناء الامبراطورية الصهيونية، بطريق الإبادة الجماعية، وبناة هذا النوع من الامبراطوريات العنصرية لا يقبلون الحياة المشتركة ولا التعايش مع «الأغيار»، وإذا لم يكن المرء يهوديا صهيونيا يحرم من حق الحياة، وشرط الوجود الصهيوني هو إفناء الآخر؛ العربي والفلسطيني تحديدا، سواء كان مسلما أو مسيحيا أو من أي ملة غير مهودة أو مصهينة، ومقولة «غولدا مائير» الرائجة هذه الأيام تقول بأن «الفلسطيني الطيب هو الفلسطيني الميت»، وعلى هذا «الفلسطيني الطيب» قبول الموت الصهيوني بطيب خاطر، و»مذبحة غزة» تمت كي يحتفظ الفلسطيني بطيبته!!، ومع «صهينة» أغلب السياسات العربية والإسلامية الرسمية؛ قبلت بتلك المقولة الشاذة، واعطت للمطالب الصهيونية الأولوية على مصالحها الوطنية والقومية!‪.
وليعذرني القارئ إذا ما اختلط الخاص بالعام في هذا الاستهلال عن «مذبحة غزة»، التي أراها أكثر بشاعة من «:المحرقة النازية»!! وكانت قد جرت في زمن الحرب وتوقفت بانتهائها، ونظر إليها القانون كجرائم ضد الإنسانية، وعوقب مقترفوها؛ أما المحرقة الفلسطينية في غزة وغيرها فمستمرة ودائمة ودورية؛ في وقت الحرب وفي زمن السلم.. لا توقفها هدنة ولا يمنعها تهديد أو ضغط.
وبالنسبة لي فإن الخاص والعام يختلط في موقفي من غزة، لأنها كانت الباب الواسع الذي دخلت به إلى عالم فلسطين في وقت مبكر؛ وكنت تلميذا بالمدرسة الثانوية، وأخذ ذلك العالم يتسع مع الدراسة الجامعية وبعدها. وفي رحلتين إلى غزة تعرفت عليها من أقصاها إلى أقصاها؛ زرت مخيماتها ومناطقها وتعرفت على أهلها؛ من رفح مرورا بخان يونس فالنصيرات وغزة وصولا لبيت حانون؛ خط التماس مع باقي فلسطين المغتصبة. ودخلت بيوت غزة، وربطتني بأهلها علاقة «عيش وملح» كما نقول في مصر، وتذوقت أكلة «المقلوبة» في بيت «حيدر اللولو» بحي الرمال وشارع عمر المختار وسط غزة، وصارت من أكلات أسرتي الصغيرة المفضلة، وكانت أول عربون للعلاقة الممتدة حتى الآن، ومن زار «النصيرات» لا يستطيع مقاومة جمال شاطئها، ولا يمكن لزائرها إلا أن يتناول أكلة «القدرة»، وكان شاطئها وقتها من أجمل الشواطئ.
وانفتحت العلاقات واسعة مع فلسطينيي الداخل والخارج، وكنت قد شاركت في «مؤتمر طلبة فلسطين» في الأردن في مثل هذا الشهر من عام 1969، وكانت عمّان جسر علاقة أخرى مع منظمات المقاومة، ومع دوائر فلسطينية وأردنية عدة. فبجانب زيارة مخيمات عمان خاصة «مخيم الوحدات» زرنا كوفد شباب مصري «السلط»، وجاء أطباء مصريون متطوعون في صفوف المقاومة؛ استشهد أحدهم أثناء وجودنا في الأردن هو الطبيب عبد الرحمن عودة.. جاؤوا من «إربد» للقائنا، والتقينا حينها «أبو عمار»، وتعرفت شخصيا على المفكر الفلسطيني الراحل ناجي علوش.
وعندما زرنا مخيم «الوحدات» كانت الحملة ضد عبد الناصر على أشدها؛ بسبب قبول وقف إطلاق النار وقرار مجلس الأمن 242، وبدا البعض راغبا في اللعب على هذا الوتر وتحويل الخلاف إلى عداوة. وكانت زيارة المخيم فرصة لحوار امتد لست ساعات متواصلة خرجنا منها ونحن أكثر اقتناعا بأن «الخلاف لا يفسد للود قضية»، وأذكر شابا اسمه «أبو الهيجاء»، تمنى زيارة القاهرة، وكنت وقتها سكرتيرا مساعدا للتثقيف في «منظمة الشباب الاشتراكي»، ووُجِّهت له الدعوة، وزار القاهرة، وكان سعيدا فقد كسر بذلك أول حلقة من الجفاء المصطنع.
وعلاقتي التي بدأت بغزة اتسعت لكل فلسطين، وصاحبتهأ زمالات وصداقات ومشاركات وخلافات، وما زالت علاقتي بالفلسطينيين هي الأقوى ينافسهم فيها أشقاء عراقيون أسسنا معا دارا للنشر؛ أصدرت صحيفة «الناصرية» في ثمانينات القرن الماضي..
ليست هذه شطحات كاتب أو حكايات للتسلية بل عرض لقناعات عززتها ثوابت نشأت وتربت عليها أجيال مخضرمة، وأطمأن الذين لا يرون إلا السواد أنها تنتقل إلى أجيال شابة؛ تضع فلسطين في مكانها الطبيعي كـ»قضية مركزية»، وتعلم أن المصير مشترك وتأخذ بقول أبوعمار: «يا جبل ما يهزك ريح». وغزة ممر عبور إلى الشام، وحلقة وصل بين المشرق والمغرب، يجب أن تقوى في مواجهة الهجمة الشرسة التي تستهدفها حاليا، وليس أمام مصر أن تعود مصدر قوة للفلسطينيين، وعمقا حقيقيا ومركزا فاعلا لكل المنطقة؛ فهي تملك طاقات وإمكانيات بشرية ومادية وطبيعية هائلة.
وعندما نطلب بوقوف مصر حكومة وشعبا مع فلسطين ودعم أهل غزة، فهذا ليس تكرما، وليس ترفا أو مِنّة، كما تصورها «الانعزالية المصرية»، التي ما زالت لها السيطرة على القرار الرسمي المصري؛ وقد أثرت كثيرا على أجيال الحكم ألمتعاقبة في مصر لأكثر من أربعة عقود؛ وتحديدا بعد حرب 1973؛ وما زالت متحكمة في مفاتيح السياسة والاقتصاد والمال والإعلام والثقافة حتى الآن!.

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق