بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

إنفلونزا الديمقراطية ونصيحة أول الهاربين من تونس نزار بولحية

■ تشير احصائية رسمية ظهرت في تونس عام 2009 الى ان نحو اربعين شخصا اصيبوا بفيروس انفلوانزا الخنازير، بنهاية اب/ اغسطس من العام نفسه. حالة التوجس والقلق التي سيطرت على معظم التونسيين في ذلك الوقت بفعل التكتم الذي ابدته السلطات في الكشف عن العدد الحقيقي للضحايا، لم تفلح في ازالتها تأكيدات المسؤولين ان الاوضاع ما تزال تحت السيطرة، وانه تم اتخاذ كل الاجراءات الضرورية في مثل تلك الحالات. مع بداية ايلول/ سبتمبر وفيما كانت الصحف الرسمية تبشر المواطنين بقرب وصول ملايين الكمامات الطبية التي قامت وزارة الصحة باستيرادها، تحسبا لتفاقم الوباء، نشرت صحيفة «الصباح» اليومية خبرا حول نصيحة قدمها الرئيس المخلوع بن علي لمواطنيه حتى يتغلبوا على الفيروس القاتل، اذ اوصى الرئيس، كما تقول الصحيفة، خلال مجلس وزاري «بتجنب التقبيل والمصافحات، مشيرا الى ان لمسة على الصدر كافية لاظهار مشاعر الترحيب الحميمية في هذا الظرف بالذات». النصيحة الرئاسية الثمينة تندرج وفقا للمصدر نفسه في اطار حرص سيادته على الصحة العمومية وعلى سلامة كافة الشعب التونسي.
لكن انفلونزا الخنازير سرعان ما اختفت، من دون ان يعرف مصير الكمامات التي اعلن عن استيرادها، ومن دون ان تتحول» اللمسات على الصدور» الى تقليد راسخ في تبادل التحية بين التونسيين، ثم اعقبها في الشهور والاعوام الموالية ظهور انفلونزات اخرى كانت تصيب الناس في كل مرة بالخوف والهلع المعهود لتتكرر معها التطمينات مجددا بان الامور ماتزال تحت السيطرة، الى ان حصل انفجار دراماتيكي غير مسبوق وخرج كل شيء عن تلك السيطرة المزعومة بحلول يناير/كانون الثاني 2011، مع الظهور الغامض لنوع نادر من انفلونزا لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت، وهي انفلونزا الديمقراطية، التي لم تنفع معها في هذه المرة لا الكمامات ولا النصائح الرئاسية بتجنب الاقتراب من المصابين، ولا حتى استعدادات وزارة الصحة والداخلية واعلانهما حالة الطوارئ، بعد انتشار الوباء واتساع رقعته.
الى الان ما يزال البلد تحت تأثير تلك الانفلونزا الوافدة من الشمال. البعض يقول انها موسمية وظرفية سوف تأخذ وقتها قبل ان تعود من حيث أتت، والبعض الآخر يرى انها مستقرة ومستوطنة وسوف يصعب التخلص منها والفكاك من تأثيراتها على الحاضر والمستقبل. الاختبار المعملي الاول لذلك الفيروس تم في اكتوبر/ تشرين الاول من سنة ظهوره نفسها اي 2011، واظهر اندفاعا واضحا للتونسيين للتحرر من اغلال الماضي وخرق التعليمات والنصائح الطبية والسياسية والاخلاقية، التي حشرت بها ادمغتهم وعقولهم لأزيد من خمسين عاما. مالت الكفة لصالح الداعين للبدء من نقطة الصفر، بوضع دستور جديد والتأسيس لجمهورية ثانية، لكن لم تقطع الرؤوس ولا نصبت المشانق ولا حتى استرجعت الاموال المنهوبة والسنوات المسروقة من عمر الشعب، بل سارت الامور بهدوء وسلاسة نادرة، رغم الهزات والعواصف التي حصلت بعد الاغتيالات السياسية وما تلاها من صعود شبح الارهاب على السطح. اما الموعد الثاني لاختبار قدرة الفيروس على الصمود والبقاء طويلا او الموت والاندثار السريع، فمن المفترض ان يكون اواخر هذا العام، لما تجري اول انتخابات تشريعية ورئاسية وفقا للدستور الجديد. لكن المتاهة التي قد يجد الكثير من التونسيين انفسهم داخلها قبل الوصول الى ذلك الموعد هي ان الصورة تبدو امامهم مشوشة وضبابية، وفرص الاختيار قليلة وضئيلة، وهو ما يجعلهم يتخيلون احيانا ان تلك الانفلونزا سوف تفتك بهم وببلدهم وتقوده الى الخراب، او قد تنقلب على العكس من ذلك الى ما يشبه المضاد الحيوي الانسب لشفائهم من العلل والاسقام القديمة، هل الاشكال إذن في فيروس الديمقراطية الغريب، أم في نظرة وتقبل التونسيين له ولاسلوب عيشهم معه تحت السقف نفسه؟
هناك جانب مهم في الموضوع وهو ان هذا الوافد الغريب ظل لعقود طويلة مثل الكائن الخرافي الذي يسمع عنه الجميع من دون ان يتمكن احد من الاقتراب منه، او مشاهدته بالعين المجردة، فهو الاكثر ذكرا وترديدا في كلمات السياسيين وخطبهم، لكنه الاقل حضورا بين الناس على الارض. لم تختبر الديمقراطية الى الان بشكل تام وسليم وربما ادت الرغبة لاكتشافها وازاحة الغموض من حولها الى التعسف في استخدامها بطرق مجنونة تخرج عن كل ضابط، او في حالات اخرى على النقيض من ذلك ادارة الظهر لها بالكامل وهجرها دفعة واحدة والى الابد. الديمقراطيون الذين يجمعون الناس ويرغبون بالوفاق الوطني والتعايش بين الجميع على اختلافهم وتنوعهم، لا يجدون للاسف مكانا امام اندفاع المطالبين بالاقصاء على الهوية، وحتى على استقراء نوايا الاخرين والكشف عما تضمره الافئدة والصدور من الداخل. في حديث لأمين عام حزب المسار الديمقراطي لاحدى الاذاعات الخاصة في الثالث عشر من الشهر الجاري رأى انه «يوجد اشخاص في الدولة لا يؤمنون بالدولة»، قبل ان يضيف ان هؤلاء الاشخاص تقلدوا مناصب وهم قادمون من مدارس فكرية وفلسفية لا تؤمن بالدولة، لا الوطنية ولا القطرية كتونس، بل يؤمنون بأمة الله». مثل ذلك الحديث لا يتردد للمرة الاولى داخل تونس، والمقصودون به معلومون للجميع وهم الاسلاميون الذين قبلوا بما افضى اليه الحوار الوطني وسلموا السلطة طواعية لحكومة التكنوقراط، وقدموا النتازل تلو الاخر حتى يخرج الدستور ثم القانون الانتخابي الجديد الى النور، ورغم كل ذلك فالشكوك ما تزال مستمرة حول طبيعة نواياهم وما تخفيه سرائرهم وقلوبهم، وايضا حول ايمانهم بالدولة، اي بالجهاز القديم للسلطة قبل الحديث عن ديمقراطية لم يعد يهتم بها، على ما يبدو، من تبقى من المنتسبين للتيارات الحداثية. على الجانب الاخر يجد اولئك الاسلاميين انفسهم في مرمى ضربات التيارات التكفيرية التي لا تقبل لا بالديمقراطية ولا باسلامهم الفاسد والملوث بمساوئ الغرب الكافر مثلما يرون.
الصعوبة التي قد لا تقل اهمية وخطورة عن كل ذلك هي في الغياب المبهم والغامض لبناة الديمقراطية. اخر استطلاعات للرأي ظهرت نتائجها منذ ايام وقامت بها منظمة «انا يقظ» تثبت ان اربعين بالمئة من الشباب ليست لديهم دراية بالدستور، وان خمسة بالمئة فقط منهم ينتمون الى احزاب وجمعيات. العينة التي شملها الاستطلاع لم تتجاوز الستمئة شاب وفتاة من خمس محافظات تونسية، ولكن النتائج التي توصلت اليها قد لا تبتعد كثيرا عن الواقع المر والمؤلم، بتصدر الشيوخ للمشهد الانتخابي وتراجع الشباب، بل غيابه الواضح في معظم القوائم المترشحة للانتخابات. الشيوخ الذين صنعوا الاستبداد في الماضي هم من يصنع الديمقراطية في الحاضر والمستقبل، انهم رجال كل العصور مهما اختلفت الاسماء والشعارات مادام بريق السلطة لا يتغير بمرور الزمن وتعاقب الاجيال. عنصر اخر قد يتحكم في خيوط اللعبة الى حد كبير وهو المال. فليس هناك ما هو اقسى على الديمقراطية من العوز والحاجة. في عهد الاستبداد كان النظام يستخدم سلاحين في الوقت نفسه، عصا الترهيب من بطشه وقوته وجزرة الترغيب في عطاياه ومكرماته. خوف الناس من جانب، وفقرهم وخصاصتهم من جانب اخر هي من اعطت اجنحة للمستبدين للاستمرار طوال العقود الماضية. قد يغيب الترهيب المباشر الان، لكن الترغيب لا ينقطع مادامت الايدي ممدودة والجيوب خاوية، والاهم من ذلك العقول مريضة ومكبلة. كان زين العابدين بن علي اول رئيس عربي يهرب من بلاده بعد ظهور انفلونزا الديمقراطية وامتدادها في ما بعد الى دول الجوار، لكن مصير تلك الانفلونزا يبقى معلقا بارادة التونسيين ورغبتهم في بقائها واستيطانها بينهم، او في طردها والرجوع بعقارب الساعة الى الوراء. تلك الارادة والرغبة ما لم تتحرر من سطوة الماضي وجبروت آلته الاعلامية والمالية فلن يكون لها اي اثر او دور في صياغة المستقبل وكتابة التاريخ، وهو ما لا يتمناه الحالمون بنجاح الاستثناء الديمقراطي لتونس، لكن ينتظره ويخطط له في المقابل كل من بقي لديه امل او بعض ثقة في جدوى نصائح الرئيس الهارب للقضاء على الانفلونزا وتوقي مخاطرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق