بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 3 أغسطس 2014

حرب عالمية أولى للّغات -محمد علي فرحات


> الأحد 27/7/2014: الطبيعة الغائبة
الطبيعة تحضر في السلام وتغيب في الحرب.
وتبدو المعارك، جنودها وأسلحتها وقتلاها ودمارها، خارج الطبيعة الحية، في مكان لا شجر فيه ولا ماء ولا غيم، لا حيوان ولا طير، وحيث لا أصوات للبشر وكائنات الطبيعة
الأخرى، المرئية وغير المرئية. وحده الصوت للسلاح، وميدان المعركة يبدو خارج دورة الحياة، حيزاً في كوكب لم يكتمل تكوينه.
الطبيعة تنتعش في سلام المكان وفي سلام النفوس، حيث لا حقد وحيث الحوار شيء آخر غير الصراخ وصداه.
كيف في الحرب (تلك التي لا تخمد في هذا الشرق) نسينا المطر وغمر الماء، قوس السحاب الطالع من شمس استثنائية، العشب المبلل والبراعم التي تستأذن بحياء.

كيف في الحرب تغيب المرأة الناهضة قبل موعد الانحناء، ويغيب الرجل في فرحه البريء قبل المعرفة وهموم العيش.
> الاثنين 28/7/2014: مرآة الغريب

كان يجب أن يأتي الغريب لنعرف أنفسنا جيداً، لأن الغريب مرآة، وحين نكسره تتشظى وجوهنا.
نبحث عن عدو يوحدنا. نحترف الحرب لنزرع الثقة في أرواحنا المهتزة.
أين الغريب الذي ليس عدونا، الغريب الصديق ومرآته الصادقة؟

> الثلثاء 29/7/2014: غسان الخنيزي
للشاعر السعودي غسان الخنيزي لغته الخاصة به، قصيدة نثر بطبقتيها، المادية (خارج الذات) والروحية (الذات في دخيلتها وفي إشعاع احتكاكها بالآخر - المرأة وكل آخر يكملنا في رحلة الوجود).
يحفر الشاعر في عمق الأشياء والهواجس، ويذهب في الحفر إلى الجوهر الفرد، مأساتنا الإنسانية.
وبهذا المسار اللغوي الخاص يقدم مزيجاً من السرد والبوح والنشيد، كيمياء تتبدل معاييرها بين قصيدة وقصيدة. تعجن من التراب جسداً وتنفخ فيه الحياة، أو تطفئ نور الحياة في جسد وتحيله إلى تراب.
هنا نموذجان من هذه الكيمياء، في سياق كتاب الخنيزي الشعري الجديد «اختبار الحاسة أو مجمل السرد» (منشورات مسعى - البحرين):

1- من «القاهرة»:
«عندما يتوقف النهار المترف بالضجيج أمام الناس الذين يحسبون الأيام، وينشر في الأزقة ظلاله الريانة، تتلألأ كُوى العمائر والمساجد والمقاهي بنور يخرج من أعين العالمين. أعمدة ومحاريب تنتظم في نسق مديد لا يهزّ رتابتها سوى المساررة في الزوايا. والريح وحدها تهيمن على الفراغات التي يتنحى عنها البشر.
الليل يرتمي كالغلالة السوداء المثقوبة على الهاوية. أكواز الذرة تنأى بعيداً باتجاه النيل في عرباتها المنقوشة بالأخضر والأحمر، وبالحكمة المتوارثة... إلا أن هواجس المدينة ليست على الضفاف النهرية، بل هي على ضفاف المهود الخالية، التي لم نكمل فيها أحلامنا. ضفاف القاهرة القديمة: الوجوه، الأزقة، الساحات الصغيرة الحاشدة بالأمل القديم، الأولاد المتدافعون على السبيل وجرعات المياه الصافية. المدينة ذات الجسد الشائك، العارم، الحي، المتواصل، الدائب في حركته».
2 - ومن «شقيقة الروح، شادية»:
«أراني متنعماً بالحضرة، مأخوذاً بها، مستغرقاً في التوق إلى ما لا يُستعاد أبداً. جالباً وإياي إلى هذه الغرفة ذات الباب الذي لم يُفتح كاملاً ولم يُغلق تماماً، جالباً حُطام أحلام كثيرة، نثار رغبات دفينة، جالباً نفسي المتوحدة في كبرياء المظهر، الملعونة بالأوهام، الشاردة في أحلام يقظتها، التي تختلط عليها الأماكن والأزمنة، جالباً روحي المكسورة، وقد اختلطت عليّ الأشياء من جديد لا أميزُّ بين ذلك الهديل الذي يأتي حانياً وخالصاً من فوق قمم صوتك المتعب، وبين نشيج الروح المضطربة في إسار دواخلي الفقيرة إلى الحنان. لا أميز بين حاجتي لماء الحياة ورحيقها الماثل أمامي وبين نداء أكثر عمقاً، أصيخ السمع إليه الآن فإذا هو قد صار ضاجاً وصاخباً».
> الأربعاء 30/7/2014: حرب اللغات
في مثل هذا اليوم قبل مئة سنة أعلن قيصر روسيا نقولا الثاني التعبئة العامة مسرّعاً دخول أوروبا الحرب العالمية الأولى، ونقلت وكالات الأنباء من الأرشيف ما كتبه آنذاك الصحافي الليبرالي ميخائيل ليمكي عن تظاهرات «هائلة» في الشوارع تلبية لخدمة العلم، وإشارته إلى أن «القيصر بأصوله الألمانية هو الوحيد الذي يقف ضد الحرب، لكنه لبّى رغبات المحيطين به فأعلن التعبئة العامة التي اعتبرت إعلاناً للحرب. وبعد يومين أعلن إمبراطور ألمانيا (والمؤثر في الإمبراطورية النمسوية الهنغارية الناطقة بالألمانية) غليوم الثاني الحرب على نسيبه نقولا الثاني الذي كتب في يومياته: لقد ذهبنا إلى القدّاس عندما علمنا أن ألمانيا أعلنت الحرب.
وعندما بارك القيصر الروسي جيشه في سان بطرسبورغ تعرضت سفارة ألمانيا في المدينة للتخريب، ومنع استخدام اللغة الألمانية في عاصمة القياصرة التي كانت تضم منذ بطرس الأكبر جالية كبيرة جداً ناطقة بالألمانية.
وكان القيصر الروسي حاول نزع فتيل الحرب في مراسلات تبادلها مع نسيبه غليوم الثاني ولم تؤد إلى نتيجة، لكنها اتسمت بطابع سريالي أحياناً، إذ إن القيصر والإمبراطور اللذين يدركان أنهما مقبلان على مواجهة، عبرا عن مشاعر ود متبادلة، ووقعا باسميهما الصغيرين «نيكي» و «ويلي». كان الجميع يتصور أن الحرب التي باتت حتمية، ستكون قصيرة. إلا أنها استمرت حوالى أربعة أعوام وأدت إلى مقتل ملايين.
قبل الحرب العالمية الأولى كان هناك تداخل في اللغات داخل عواصم أوروبا ومدنها الكبرى. بقيت الروسية لغة الفلاحين ممتدة قليلاً في الجوار الأوروبي وكثيراً في الجوار الآسيوي حيث تنافس الفارسية والتركية، لكن الألمانية كانت لغة الفلسفة والنخبة القائدة تشع من وسط أوروبا على شرقها، أكثر مما تشع على الغرب حيث تنافسها الفرنسية لغة الصالونات وأبناء الطبقات العليا والعائلات الحاكمة. أما الإنكليزية فوجدت امتدادها الواسع خارج القارة في عالم المستعمرات الذي سيرث القارة العجوز.
وكان ملوك أوروبا ونبلاؤها قبل الحرب الأولى يشكلون نادياً عائلياً يحكم القارة القديمة، ونادراً ما كانت أصول ملك أو إمبراطور تعود إلى الشعب الذي يحكمه.
هذا التداخل بين الحكام والنبلاء واللغات سينقطع في فترة ما بين الحربين ويأخذ صورته الجديدة مع نتائج الحرب العالمية الثانية، بتراجع الألمانية إلى حدودها الضيقة، وباجتياح الروسية أوروبا الشرقية الملحقة بالمعسكر السوفياتي الذي تقوده روسيا ويتحدث بلغتها بالضرورة، وبــــتـــقدم الإنكليزية السريع بفضل التأثير الأميــــركي لتصبح لغة أساسية في أوروبا والعالم، وبصمود الفرنسية إلى أن تلحق بمصير الألمانية، وهي لم تصل بعد إلى هذا المصير.
تتذكر أوروبا وشمال أميركا هذه الأيام الحرب العالمية الأولى في مئويتها، لكن العالم الآخر، عالمنا، الذي تأثر بصراع الأقوياء، له تاريخه المختلف ومعاركه التي تبدأ ولا تنتهي. يتحسس مستقبله يوماً بيوم، على سكين التعصب الديني وغير الديني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق