بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 16 أغسطس 2014

هل تسببت «البلطجة الإعلامية» في رسوب مصر في امتحان غزة؟! محمد عبد الحكم دياب

كشفت «محرقة غزة» ظاهرة مستفحلة في مصر لا يمكن وصفها إلا بـ»البلطحة الإعلامية»، وننظر إليها باعتبارها الطور الثالث من ظاهرة البلطجة؛ كظاهرة اجتماعية موجودة على هامش الحياة اليومية؛ وتعالج بالقانون والاستجابة لضوابط المجتمع، واستمرت هكذا حتى نهاية
القرن العشرين، وبدأت في التحول مع توظيف سلطات الأمن لها في التصدي للعنف الطائفي الذي ظهر في مدن وقرى الصعيد، ودخلت الطور الثاني، وانتقلت من الهامش إلى متن الحياة العامة، خلال المواجهة التي جرت في تسعينات القرن الماضي. وفسرت الظاهرة نفسها بنفسها نتيجة اصطدام قوات الأمن بأحد أباطرتها الكبار؛ اسمه عزت حنفي، وكان قد غير نشاطه من العمل مع الشرطة إلى تجارة الأسلحة والمخدرات، وكون شركة مع شقيقه حمدان، واستولى على مساحات كبيرة من الأراضي في جزيرة النخيلة.. التابعة لمركز «أبو تيج» بمحافظة أسيوط بصعيد مصر

حين حاصرته الشرطة في 2004 اتصل بفضائية عربية؛ مدعيا أن السلطات تريد التخلص منه بعد مساعداته لها في انتخابات مجلس الشعب، وفي حربها ضد «الإرهاب» في تسعينات القرن الماضي، على حد قوله، وذكر أن ما قام به كان بتكليف من سلطات الأمن، وزعم أنه حصل على أسلحة منها لتنفيذ تلك المهام!. وهنا بدأ طور ما يمكن وصفه بـ»البلطجة السياسية»، بعد أن بدأت وسيلة معتمدة في التعامل ضد جماعات العنف المسلح، ثم ضد المعارضة بشكل عام فيما بعد.
خلال ذلك الطور تبلورت فكرة توريث الحكم، وبدأت خطوات تكوين «حزب المستقبل» كظهير سياسي لـ»الرئيس الموازي» جمال مبارك؛ في معركته الفاصلة للرئاسة الرسمية، وبدا التوريث يتجلى منذ 2002، ومع قرب انتخابات الرئاسة في 2005 تحولت «البلطجة السياسية» إلى «مؤسسة»؛ إذا جاز التعبير، وكانت العصا الغليظة في الاعتداء على الصحافيين والنشطاء، والتحرش بالصحفيات والناشطات، ونشرنا وقتها ما جرى للصحافية الراحلة نوال علي، التي توفيت بعد التنكيل بها بأربع سنوات، وكان التحرش والتنكيل وانتهاك الأعراض يتم تحت مرأى وسمع رجال الأمن وحضور ومشاركة قادة شباب الحزب الوطني المنحل، وهناك إحصائيات تقدر عدد البلطجية في عهد حبيب العادلي بأكثر من أربعمئة ألف بلطجي وبلطجية. وفي ذلك الوقت جرت ممارسات غير مسبوقة في تعذيب وانتهاك حرمات وأعراض المصريين والمصريات!!.
وبعد ثورة 30 يونيو دخلت البلطجة طورها الثالث، وهو «البلطجة الإعلامية»، حيث بدت هناك حاجة إلى بلطجة من نوع جديد لممارسة الضغط على العقول وترويع النفوس وبث الفتنة بين الناس، وقادت حملة على ثورة يناير واعتبارها «مؤامرة أمريكية»، ولما كانت ثورة يونيو قد أبرزت بعدين غابا عن ثورة يناير؛ هما «الاستقلال الوطني والعلاقات العربية»، فإن هذا استفز «الثورة المضادة» فانبرى بلطجية الإعلام للتطاول على العرب… وكالوا الإهانات للفلسطينيين، واستخدموا مفردات مقززة تجاوزت كل القيم والأعراف الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وتفوقت بذلك على أجهزة الدعاية النازية والصهيو غربية، وتأسست لها فضائيات بمال سياسي وأمني وطائفي؛ أغلبه مجهول المصدر، ولا تقدم هذه الفضائيات إلا وصلات من «الردح» الدائم، والسب المستمر، والتحريض المتواصل.
وتعزف «البلطجة الإعلامية» على وتر «الأمن القومي المصري»، وكأنه بلا أصل ولا هدف، ويتحقق بعزله عن محيطه وجواره وموقعه الجغرافي ومجاله الاستراتيجي، وهذا المبرر الزائف ينتشر في وقت يتعامل فيه أعداء المنطقة والمتكالبون عليها؛ باعتبارها وحدة جغرافية وسياسية واقتصادية متكاملة، وعلى مستوى اللغة والدين لا يختلف الأمر كثيرا، فاللغة السائدة هي العربية الفصحى؛ متآخية مع لغات شقيقة.. في جنوب مصر.. والمغرب العربي.. وشمال سوريا والعراق. أما الدين فمصدره واحد؛ في منطقة هي موطن الرسل والأنبياء، ومهبط الوحي، ونشر الرسالات. 
والأمن الوطني والقومي يقوم على التعاون والمصالح المتبادلة، ويزيد عليه أننا في منطقة؛ عدوها واحد ومصيرها مشترك، وعليها العودة إلى الطور المدني الجامع، وتجاوز الأطوار العشائرية والطائفية والانعزالية التي عادت من جديد، وبذلك تسترد قدرتها على بناء منظومة أمن جماعي ودفاع مشترك قادرة وفاعلة، ودون ذلك تبقى مستباحة ومطمعا لمزيد من التوسع الإمبراطوري الصهيوني، الذي يتمدد ساعة بساعة؛ تساعده سياسات عربية لا تعرف غير التنازلات التزاما بـ»التدويل» و»الشرعية الدولية»، وحين كانت حلول المنطقة نابعة من داخلها، ومعبرة عن إرادتها كان الوضع مختلفا. وكانت وهي تواجه الأخطار قادرة على تجاوز الخلافات وتجميد الخصومات. 
حدث ذلك في مواجهة تحويل نهر الأردن في ستينات القرن الماضي، ولم يقف الصراع على اليمن عقبة أمام عقد أول قمة عربية في كانون الثاني/يناير 1964 بالقاهرة، تلتها قمة آخرى في ايلول/سبتمبر من نفس العام بالاسكندرية؛ خرجت من رحمهما «منظمة التحرير الفلسطينية» و»جيش التحرير الوطني الفلسطيني» و»القيادة العربية الموحدة»، بجانب إقرار المشروعات المعدة لمنع سرقة المياه العربية، وقد أجهضت فيما بعد.
وبعد هزيمة 1967 تم تجاوز الخلاف السعودي المصري بسبب اليمن، وانعقدت «قمة الخرطوم» في مثل هذا الشهر من عام الهزيمة، وخرجت بلاءات معروفة وبتعويضات للدول المتضررة من العدوان؛ مصر وسوريا والأردن وفلسطين. 
ومع أن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين لم يكن مع وقف إطلاق النار في 1967 لكنه اتخذ موقفا تاريخيا شجاعا؛ سارع بتغطية تكلفة أسلحة لازمة لتأهيل القوات المسلحة المصرية والسورية، وكان الدور الجزائري من أهم عوامل صمود مصر وسوريا وفلسطين؛ بدءا من حرب الاستنزاف حتى حرب 1973، وكانت مشاركة الجزائر بقواتها على الجبهتين المصرية والسورية هي الأكبر والأكثر تأثيرا.
وكان المقصود هنا هو التعرف على تصرفات جيل من الحكام كان يتغلب على خلافاته ويضبط مواقفه عند المحن، وفي مواجهة العدوان الخارجي. والتاريخ العربي الحديث به كثير من الصور الناصعة في هذا السياق. 
و»محرقة غزة» لم تقابل بمروءة على نفس المستوى؛ تخفف من الصلف الصهيوني والتواطؤ الغربي.. وكان على مصر الرسمية، أن تترفع على الخلافات وتتعالى على الجراح، للتخفيف من التكلفة الباهظة التى دفعتها غزة.
لماذا لم تحذ مصر حذو دول أمريكا اللاتينية وتجمد علاقتها بالدولة الصهيونية؟، ألم يكن في مقدورها التهديد بإلغاء معاهدة «كامب ديفيد» و»اتفاق سلام» المبرم مع الدولة الصهيونية؟ ألم يكن من الواجب نصب مستشفيات ميدانية ومراكز للتموين والإيواء في رفح المصرية؛ للمصابين والجرحى والمشردين؛ دون قيد أو شرط، وفتح الحدود والمعابر أمام المساعدات الأهلية والشعبية العينية والمالية، بالتنسيق مع أهل غزة؛ تجنبا لغدر جماعات العنف المذهبية والطائفية في سيناء؟
كان ذلك هو الواجب ردا على «البلطجة الإعلامية» وغير الإعلامية، وقد أضحت عبئا ثقيلا على مصر والمصريين في هذه الأوقات العصيبة؟.. لماذا لم تتخذ الحكومة المصرية مثل هذه الخطوات؟ ألأن رئيس حكومتها مقاول يتعامل فقط مع الحديد والطوب والرمل والأسمنت؟ أم أن ذلك هو أفقه ومستوى استيعابه؟ أم لكونه مشغولا بإعادة إنتاج نظام مبارك، «الكنز الاستراتيجي للدولة الصهيونية»؟ أم أنه يعد العدة لمزيد من الإجراءات والقرارات الاقتصادية؛ يضاعف بها معاناة الفقراء ومحدودي الدخل والطبقة الوسطى؟ 
هل لنا أن نطالب بتحقيق سياسي وحقوقي نتعرف من نتيجته على أسباب رسوب مصر في امتحان غزة؟.. 
هل هذا ممكن؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق