بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 يونيو 2013

الزيف الاجتماعي المصري ... يقابله صعود الرجعية - يسري عبد الله

تبدو الرواية المصرية الآن في سعيها الحثيث نحو معرفة الواقع واختبار جوهره الثري معنيةً أكثر بذينك الآن والهُنا، ومشغولة بانفتاح النص الأدبي على محيطه الاجتماعي وأفقه السياسي والثقافي، فابتعدت عن الغرف المغلقة، والأبنية المعقمة التي لا تصنع عوالم تخييلية بل تصنع أنماطاً زائفة من الوعي بالنوع الأدبي من جهة، وتزييفاً للواقع المسكون بالتحولات من جهة ثانية. ومن هنا يبدأ الروائي المصري علي سيد علي، في روايته «الشهير بسراييفو»، (دار «روافد» - القاهرة)، إذ يبتعد بنصه عن القشرة المزيفة للواقع، فلا يتمثلها أو يدعي وصلاً ساذجاً معها، بل يخترقها ليعيد صوغ الواقع جمالياً على نحو ما فيه من قبح، وفساد، وابتذال، وتداعٍ مجتمعي، واصلاً ما بين العام والخاص. وعبر بطله الممزق الواقف على شفا الحافة الشيخ أحمد بانتهازيته المعبرة عن تناقض اجتماعي فادح، نقف على أعتاب مجتمع شكلي يحتفي بالمظهر لا المخبر، تعنيه مثلاً تمتمات أحمد ووجهه الذي يشبه الوجه الطيب والمألوف للممثل المصري محمد رياض، كما يصفه الكاتب، أكثر مما يعنيه مسلكه وطريقة تعامله مع العالم. وفي الآن نفسه، يعنيه غطاء رأس نادية (حجابها)، أكثر مما تعنيه خياناتها الدائمة الروحية والجسدية لزوجها. نحن وباختصار، أمام حالة تعرية شاملة لمجتمع قرر أن يحذف الجوهر لمصلحة المظهر الخادع، والمستتر بأقنعة الزيف الاجتماعي، والنفاق الرخيص.
وعبر سرد يعتمد على التنوع يبني الكاتب نصه الروائي موظفاً ضمير المخاطب أنت، وبما يحمله من قدرة أشد على المراجعة، ومساءلة الذات، وكشف أقنعتها الداخلية، فالكاتب لا يختار مثلاً بين صيغتين لغويتين من صيغ الحكي فحسب، لكنه يختار بالأساس بين رؤيتين للعالم تعبر عنهما الصيغتان اللغويتان، فتتمايزان، وتختلفان، فحين يستخدم السارد ضمير المخاطب، فإنه يجعل من المروي عنه مروياً له أيضاً، وهذا ما يتكرر في المقاطع السردية الأربعة عشر المشكلة للمتن السردي للرواية. واللافت أن الكاتب في المقاطع العشرة الأولى يستخدم المراوحة ما بين الحكي إلى/عن الشيخ أحمد، والحكي إلى/عن نادية حتى يستقر المقام في المقطع الحادي عشر إلى الحكي عن أحمد وبطله المساعد حسن القواد، والشخوص الجدد «أهالي طوسون في مدينة الإسكندرية»، حيث تقودهم الظروف في طريقه بوصفه محامياً للدفاع عن منازلهم المهددة بالمحو جراء فساد السلطة، ولأنه انتهازي بطبيعته، ونموذج لنمط يتعيش على دماء الأوطان ممثلاً في صيغة الإسلام السياسي، لتتبدد أية بارقة أمل في التحول عبر هذا النمط المراوغ، ولتبقي حركة المجموع وحدها سبيلاً للخلاص، خصوصاً حين تعلي الرواية من قيمة الحل الجماعي عبر البسطاء من أهالي المكان. وعلى خلفية المتن الرئيسي للرواية ثمة حكاية فرعية يحيل جوهرها إلى عنوان العمل، عن مشاركة البطل المركزي في قوات حفظ السلام في سراييفو، وشروعه في توثيق الذكرى وكتابتها مثلما نرى في المقطعين الحادي عشر، والثاني عشر.
تتعدد التقنيات داخل الرواية، فتتضمن الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة في توصيف الشخوص، مثلما نرى في شخصيتي نادية، وأحمد، كما تحوي الرواية وعياً باللغات الاجتماعية للشخوص، والمعبرة عن تكويناتهم النفسية، ووعيهم، وطبقتهم الاجتماعية، مثلما يحكي السارد الرئيسي عن شخصيتيه المركزيتين الشيخ أحمد، ونادية: تتيح له تلك الوضعية أن ينتزع منك قبلة طويلة، تتمنين إطالتها مدة أكثر لولا خوفك من الدخول المفاجئ لأحد مدخلي البيانات، تطلبين منه الذهاب إلى المتنزه، فهناك تستطيعان تبادل القبلات من دون خوف من مراقبة أحد، يقول لك: ربنا ييسر. (ص 41).
ثمة لعب زمني في الرواية يتكئ على توظيف ما يُعرف بالفجوات الزمنية،
ففي المقطع التاسع ينفتح المشهد الروائي على توطد الصلة ما بين الشيخ أحمد ومساعده القواد حسن، والتي نكتشف في ما بعد عبر تقنيتي الاسترجاع والاستباق خبر هذه العلاقة وأمرها، والمسكوت عنه زمنياً في النص.
تبرز آلية السخرية بمستوياتها المختلفة داخل الرواية، فضلاً عن ما يمكن أن يسمي بـ «حسية التمثيل» والمجاز الواقعي، من قبيل: «أصبحت هي بالنسبة لك كقطعة لحم شهية تمنيت التهامها، فسبقك إليها كلب فلعقها، وتركها لك، فلم يأكلها، ولم يتركها لك نظيفة لتسد جوعك». (ص83).
في رواية «الشهير بسراييفو» نصبح – وباختصار- أمام كتابة تدرك موقفها من العالم، فتعرف أين تقف ومع من، طارحةً أسئلة مختلفة عن الوطن الذي تبدل، والزيف الذي تفشى، والآمال الكبار التي تتداعى، في رصد موضوعي ودقيق للتحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري، وبما حوته من صعود للقوى الرجعية بأنماط تفكيرها الماضوي، والمعادي لحركة التاريخ وتقدمه صوب الأمام، متخذة من تحولات البطل المركزي الشيخ أحمد، والشخوص المرتبطين معه مجلى/ مرآة لتحول مجتمعي يتفشى فيه النمط الرجعي في الحياة والتفكير، وتطل سنوات التسعينات من القرن المنصرم بما حملته من استلاب روحي وقيمي يعد امتداداً لسنوات السبعينات بهوسيها الديني والأمني، وصولاً إلى العام 2006 أحد الأعوام الفارقة في مجرى الحياة المصرية، حيث بدا كل شيء كارثياً، والحراك الذي انتاب المجموع للدفاع عن أمكنتهم «أهالي طوسون في الإسكندرية»، تعبيراً عن حراك أوسع، بطله سيكون المجموع الأوسع في ما بعد، ولكنه سيكون مرشحاً – لو مددنا الخيط على استقامته - للقفز عليه من قبل الطفيليين من أمثال الـشيخ الانـتهازي أحمد وإخوانه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق