بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 يونيو 2013

تداعيات «العملية السياسية العراقية»: تنظيم الاحتراب الطائفي - عبد الأميرالركابي .





يوم 1/ 6/ 2003، عقد في مكتب عمار الحكيم رئيس «المجلس الإسلامي الاعلى»، اجتماع ضم غالبية رموز «العملية السياسية الطائفية»، غاب عن الاجتماع منهم أياد علاوي وإبراهيم الجعفري، بينما تذكر المتابعون لوقائع اللقاء، شخصية كانت قد انطوت في الظل، هو موفق الربيعي. الاجتماع حصل إثر نداء لـ «المصالحة» أطلقه الحكيم، وتم في ظل أجواء مرعبة أدت خلال شهر إلي مقتل 1054 شخصاً، سواء نتيجة السيارات المفخخة أو العبوات التي توزعت على بغداد وأحيائها بالتساوي طائفياً، أو من طريق الانفلات المليشياوي، ممثلاً بـ «عصائب أهل الحق»،
الذين صاروا يخطفون المواطنين السنة ويقتلونهم علناً، ويقيمون الحواجز الطيارة برعاية الاجهزة الامنية وقوات الجيش والشرطة وتحت أنظارها وبمساعدتهم، وأحياناً بمعدات وناقلات حكومية.

أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب، قال لاحقاً إنه «اضطر مجبراً للقاء المالكي، خوفاً من أن تهيمن المليشيات على الحياة»، ورئيس البرلمان كان قد قبّل المالكي خلال اللقاء، مثيراً التفاتة غريبة من الإعلام العراقي، فلقد تردد عبر القنوات القول بأن تلك القبلة أغلى قبلة سياسياً، ولا أحد يعرف لماذا بادر بعض مقدمي البرامج إلى التساؤل عبر شاشاتهم: «ليقل لنا أحد أي القبلات أغلى منها؟».

هكذا تتـــحول الأحـــداث والمشاهد الى ما يشبه أفلام الرعب، ويعم الاختلاط والضياع، فالقبلة المذكورة ذكرت بقبلة دمـــوية أخرى وقعت عام 1992، لم تستذكر اليوم، ولم توضع في بورصة مسلسل الرعب الـــطويل: وقتـــها زار وفد كردي بغداد بزعامة مسعود البـــارزاني وجلال الطالباني، والتقى صدام حسين، ليبادر جلال الطالباني الرئيس العراقي المريض والغائب عن المشهد اليوم، ويطبع على خد صـــدام قبلة شهيرة، وهو يضع يده في حزام صدام. والحركة الأخيرة بدلالتها العشائرية، لم تُلحظ وقتها، ولم يعلق عليها أحد، كذلك فإن أحداً لم يراهن، أو يتحدَّ في حينه متسائلاً عن ثمنها أو قيمتها.

اليوم تبدو قبلة المالكي النجيفي معروضة للوزن وللتثمين، لأن مسلسل الموت كرس قانونه، والأمل في الخروج من جولات الرعب، وبعثرة الأجساد في الشوارع، وخطف الصبية على الهوية، والخوات، والقتل العلني بالجملة صار دافعاً لاستجداء الأمن وتزيين كل ما يمكن أن يحققه. قبلها، ايام صدام حسين والطالباني وقبلة الأخير للأول، كانت عاصفة الصحراء قد هدأت، والانتفاضة الشعبانية أخمدت، والحصار بدأ، من دون أن تستباح الشوارع، أو تتراجع أجهزة الدولة عن مهمتها أو عن جزء منها، إلى المليشيات، فهذا النمط الأخير من التصرف، على ما يبدو، يتناسب مع شكل الحكم، أو «النظام» الذي قام بتدبير الاحتلال الأميركي في 2003، بعد سحق الدولة الحديثة القسرية، وحلول سلطة مكونات ما قبل الدولة محلها.

عانى العراق خلال أعوام 2006-2007 من اقتتال طائفي مريع، ساهم في تغذيته الاحتلال ورعاه لأهداف، منها الإجهاز على المقاومة المسلحة، التي أغرقت وقتها بالاقتتال الطائفي، ما منح «القاعدة» موقع الصدارة، وحول الصراع نحو وجهة أخرى، لم تنته بقرار من جهة بعينها، بل بمبادرة ذاتية من المجتمع الذي اكتشف احتمال فنائه من دون نتيجة. وقتها كانت مؤسسات العملية السياسية ضعيفة، والميليشيات هي المهيمنة، والطوائف محكومة من القوى المسلحة العاملة خارج السلطة المركزية الناشئة، والتي تسمي نفسها وما تزال «دولة». ومنذ 2008، عندما هدأ الاقتتال الطائفي، بادر المالكي الى حملة تقوية جهاز الحكم الصاعد بتصفية أبرز الميليشـــيات، فاشتهرت وقتها هجمته العسكرية على جيش المـهدي في البصرة تحديداً، الأمر الذي منحه شعبية لا يستهان بها، ترجمت مباشرة نصراً حصده في الانتخابات المحلية التي أعقبت ذلك الإجراء.

ومنذ تلك الفترة حتى وقت قريب، تعززت سلطة الحكم على حساب الميليشيات، وشاع قدر من الأمن، عززه اتساع أجهزة الجيش والأمن، التي يقول بعض الإحصاءات إنها بلغت المليون ومائتي ألف منتسب، لكن أواخر 2012 وما تلاها أظهرت انحدار «العملية السياسية الطائفية» نحو انسداد الأفق، الأمر الذي يفسر أحياناً بأنه ناجم عن مخاوف بعض الأطراف من تطور قدرات الحكومة المركزية وتناميها، كما عكس تخلخل التوافقات التي أقيمت عليها العملية السياسية، وفق مبدأ ضعف الجميع، بحيث يصبح أي تطور في قوة المركز بمثابة خطر يتطلب نوعاً آخر من الأدوار والتحالفات، وحتى التقنينات الدستورية. وهذا، على ما يبدو، جعل الأكراد يتوجسون، والمنطقة الغربية تشعر باحتمال تكريس سياسية التهميش الممارسة ضدها نهائياً. وهذا وضع «العملية السياسية» أمام طريق مسدود، مصدره التناقض بين مآلات وإغراءات حتمية، تعززها الآليات الوطنية للعراق، وبين واقع أو شكل نظام، أرسي أساساً على تكريس سلطات ونفوذ قوى ما قبل الدولة.

ومع اشتداد الأزمة وتفاقمها، على جبهتي كردستان والمناطق الغربية، تحول المالكي نحو ما كان قد تجاوزه أو صفّاه بيديه، فأحيى فجأة نفوذ المليشيات عبر»عصائب الحق»، مهدداً بالعودة إلى زمن لا يريده أي من الأطراف الأخرى. وهكذا عثر على طريقة تكريس ممارسة دكتاتورية مستحدثة، تستعمل القتل العلني الميليشياوي، وسيلة لـ «اقناع» الآخرين بضرورة قبول الأمر الواقع. هذا النوع من التصرف جرى تقديمه للناس بعلنية لا تترك مجالاً لدى أحد للشك، سواء خلال شهر أيار (مايو) الدامي، أو عند التقاء أقطاب العملية السياسية في 1/6/2013 في بيت الحكيم، حيث تسنى للناس أن يشاهدوا القبلة الأغلى، وان يصحوا في اليوم الثاني، وقد توقف القتل وانسحبت الميليشيات. قال الناس وقتها بصوت خافت مجتمعين: إذاً انتم الذين كنتم تقتلوننا؟

هكذا عرف اليوم قانون جديد لإدارة الصراع في ظل حكم مكونات ما قبل الدولة، بين جهة تريد أن تصبح مهيمنة بالمطلق، باسم الدستور والنظام، مكرسة دكتاتوريتها المتزايدة الحضور، ومسيطرة على كل مفاصل الحياة، وسط مراكز قوى خارج الحكم، ميليشيات وأقاليم، وقوى شبه مستقلة، تدافع عن وجودها من دون كثير اطمئنان. وهكذا تؤجل الانفجارات، وتُوقف جولات القتل، بينما الطريق طويل ومعتم، والتصادمات لا يمكن تحاشيها، أو تحاشي تجـددها. فلا كردستان سوف تفلح في الحفاظ على مكتسباتها، ولا المناطق الغربية تملك الفرصة لاستبدال التهميش بحلول تسمح لها بالعيش كما ترغب، خاصة بعد أن جربت شعارات الإقليم الخاص، واصطدمت باعتراض كاسح، تبرره لاواقعية عملية ودوافع شعورية وتاريخية يستحيل القفز عليها.



                                                                                                                                   كاتب عراقي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق