بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 يوليو 2014

نرغب بوطن ثم نحطّمه - محمد علي فرحات

نحن، أهل المشرق العربي، أكثر أهل الأرض كلاماً على الوطن وحلماً به، فيما نبذل وسعنا لمنع نشوئه أو لتحطيمه إذا كان موجوداً. ومثل مرضى نهجس بما نعتبره مادة اجتماعنا الأساسية: الطائفة أو القبيلة أو جيرة الحي في المدينة، ليصل المحترف إلى الحكم باسم الطائفة، وليفاجأ القابض على الطائفية حين يفتح قبضته بأنه لا يرى شيئاً. الطائفة، أو القبيلة أو جيرة الحي، مثل هواء يملكه الجميع لكن الواهمين يعتبرونه ملكهم وحدهم.
نعيش وطن الرغبة بوطن، ونهدر العمل والسهر والحلم فلا تتحقق رغبتنا، لأن القاتل من أحشائنا يأتي، ينمو مثل سرطان نأنس به حتى يقتلنا. هكذا تدركنا اليقظة لمرة وحيدة وأخيرة.
نسمع كثيراً هذه الأيام استعادة نشيد «موطني» للفلسطيني إبراهيم طوقان واللبناني محمد فليفل.ليس نتانياهو قاتل ذلك الموطن «السالم المنعّم والغانم المكرم»، نحن قتلناه قبل أن يولد (عبقرية في القتل لم يعرفها غيرنا). وحين وُجدت أوطان لنا، ها نحن نمزّقها لتتوزع على أوهام الجاهل واحتراف السارق.
> الثلثاء 8/7/2014: «مقبرة براغ»
لليهود مساحة كبـــيرة في روايــة أومبيرتو إيكو «مقبرة براغ» (نقلها من الإيطالية أحمد الصمعي ونشـــرتها «دار الكتاب الجديد المتحدة» في بيروت)، واتساع المساحة يعود إلى أن الرواية تدور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تحديداً مرحلة الوحدة الإيطــالية واحتشاد الجماعات الفكرية والدينــية وشبه الدينية في الانتقال من الإقطاعين الديني والزراعي إلى الدولة الحديثة، ذلك المسار الذي بدأ مع الثورة الفرنسية واستمر على رغم المعوّقات.
لم يتقصد أومبيرتو إيكو تكرار نعوت شنيعة بحق اليهود واتهامهم بقيادة «مؤامرة كونية على أوروبا المسيحية»، فزمن الرواية يقتضي ذلك، بقدر ما يقتضي نعوتاً شنيعة أخرى بحق اليسوعيين والاستخبارات التابعة لهذه أو تلك من السلطات المتناحرة.
إنها حقائق تاريخية في رواية حافلة بأسماء المرحلة وعناوينها مثل غاريبالدي والفحامين ودرايفوس وبروتوكولات حكماء صهيون وصولاً حتى إلى سيغموند فرويد. وليس في الرواية اسم غير تاريخي سوى بطلها النقيب سيمونيني، الذي ينشط بأسماء شتى، ولكل اسم زيه وطريقته في التصرف، لكن المهنة الحقيقية لسيمونيني هي تزييف الوثائق، تعلمها أثناء عمله مساعداً لمزيف ليستطيع العيش بعدما فقد إرثه بعد وفاة جده الإقطاعي، وقد ضاع ذلك الإرث، بالتحديد، نتيجة تزييف وثائق. والحال أن التزييف عنوان تلك المرحلة القلقة من تاريخ إيطاليا وأوروبا القريبة. يشكو سيمونيني إلى ربه قائلاً: «يا إلهي كيف يمكن أن نعيش في عالم من المزيفين؟»، ويلاحظ أن معنى الهوية الذي يتبلور في عصره «يقوم على الكره، كره غير المماثل، إذ تنبغي تنمية الكره كعاطفة مدنية».
بهذا المعنى يتداخل التاريخ برواية «مقبرة براغ» من دون أن تكون رواية تاريخية بالتحديد، فليس من إبطال فيها ولا بطولة. إنها الأحداث والأفكار تسيل وتتعارض وتتلاقى، وفي غالب الأحوال تتمازج، ويبدو العالم في الرواية لعبة خبثاء لا لعبة أقوياء، وهو في كل الأحوال لعبة مزيفين.
الرواية السادسة لأومبيرتو إيكو، تفترق قليلاً عن سابقاتها لكنها تتلاقى معها في اللعبة الأثيرة للكاتب، صراع الأفكار وتشابكها، ومتاهة مسرح الرواية وأهل المسرح، بحيث تتحول القراءة إلى مزيج من تشويق وتأويل.
> الأربعاء 9/7/2014: وداع
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»
لا يتسع الوقت لوقفة وداع مثلما وقف جدنا امرؤ القيس. تدهمنا جماعات آتية من جوف التاريخ، وحين تسطع الشمس تعشى أبصارها عن تفاصيل مكاننا، لذلك تلجأ إلى جرف البيوت على ساكنيها. نهرب عبر الفلوات ولا نعرف أي الجهات مقصدنا. لقد ملّ العالم المتمدن استقبال مهاجري العالم المتخلف. وأبعد من الملل، صار يخافهم حين يصلون إلى أرضه فيلتفون في شبه غيتو ويرون في مستقبليهم أعداء، وفي قوانين البلد المضيف سبيلاً إلى تحايل واقتناص غنائم.
نتعرض للأسوأين، ظلم وجهل الجماعات المسلحة التي احتلت بلادنا وهدمت معالمنا، والسمعة السيئة التي يلحقها بنا فكر تلك الجماعات المتغلغل في عقول ونفوس تعتبر اللجوء إلى بلاد الآخرين نوعاً من الغزو.
لا وقت لشاعر أو كاتب أو إنسان طبيعي من بلادنا للوقوف مودعاً هذه البلاد التي يغادرها بلا عودة، لا وقت لبكاء على الأطلال أو لنص أخير لن يجد قارئاً ولن يذكره مؤرخ: أليس ملفتاً أن الجماعات المسلحة تحرص على تحطيم آثار بلادنا؟ ومن يجرؤ أن يسأل عن مصير اللوحات المسمارية وغيرها في آثار إيبلا السورية، حيث تفرض «الخلافة» على من تبقى من السكان بيعة العبيد؟
من الوداعات الحديثة هذا المقطع من نص كتبه أندريه أسيمان، اليهودي المصري الذي دفعت عائلته لمغادرة موطنها الإسكندرية، والنص من كتاب يواخيم سارتوريوس «الإسكندرية سراب» الذي نقله من الألمانية فارس يواكيم ونشرته مؤسسة «شرق غرب» بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم:
«حدّقت في الأنوار المرتعشة المنبعثة من قوارب صيادي السمك بعيداً في الأفق، والتي كانت تحضر دائماً في الليل هناك. وتأملت زمرة من الأطفال كانوا يلوحون بفوانيس رمضان ويهللون ويمرحون على الشاطئ. البنات في ثياب زاهية باللون الوردي- الأحمر، تمسك الواحدة بيد الأخرى ثم يختفين مجدداً في الظلام، تليهم فرقة أخرى من الأطفال عشاق الليل الذين جاؤوا معاً إلى حيث رمال الشاطئ تحت مرتطم الأمواج، ولوحوا بأيديهم صوب الأعلى، فرددت لهم التحية بتلويحة ود وصداقة، ثم مسحتُ عن وجهي رذاذ الأمواج.
عندما لمست سطح ذلك الجدار الخشن والرطب، أدركتُ أنني لن أنسى تلك الليلة، وأنني سأتذكر هذه اللحظات بعد سنوات، وهذا الحنين المبهم الذي استولى عليّ بينما كنتُ أسمع دوي ارتطام أمواج البحر بكتلة الصخور القوية عند ممشى التنزه وأتأمل الأطفال الذين يمرون في مواكب لهو ويرقصون عند الشاطئ. أردت أن أكون هنا مجدداً في مساء اليوم التالي، وفي مساء اليوم بعد التالي، ثم شعرت بأن وجع الوداع لا يوصف، لأنني عرفت أن مثل هذه الليلة لن يتكرر، وأنني لن آكل الحلويات الطيبة في متنزه الكورنيش لا في هذه السنة ولا في أي سنة أخرى، وأنني لن أعايش جمال هذه اللحظة المحيّر والفجائي مرة ثانية، وفيه وجدت نفسي، وقد هفّ قلبي فجأة إلى مدينة ما كنت أدرك أنني أحببتها.أقسمت أنني بعد سنة بالتمام سوف أجلس فــي الـخارج أثناء الليل، أينما كان ذلك متاحاً في أوروبا أو في أميركا، وأنظر باتجاه مصر، كما ييمم المسلمون وجوههم شطر مكة وقت الصلاة، لأتذكر هذه الليلة وهذه الأفكار وهذا القَسَم».
> الخميس 10/7/2014: صديقي «العربي»
اتصل صديقي من الولايات المتحدة قائلاً إنه ألغى زيارته للبنان هذا الصيف، ودعاني لقراءة تساؤلاته البريئة حول منطقتنا:
إذا انقسم العراق إلى ثلاث دول، كردية متطورة تتفاعل مع العالم في القرن الحادي والعشرين، وسنية تعيش في القرون الوسطى وشيعية تعاصرها لتجددا تناقضات مجانية كانت ملك التاريخ.
وإذا انقسمت سورية إلى دولتين، الأولى جزء من «الخلافة» العراقية الممتدة في سورية، والثانية يحكمها بشار الأسد «إلى الأبد».
إذا حدث ذلك وامتد البلاء إلى الأردن ولبنان. فمن يبقى من العرب؟
المشرق عنوان نهضة العرب في مواطنهم كلها، حتى إذا تفكك وتسيّد عليه المتخلفون، لن يبقى لهم عنوان معاصر.
صديقي في أميركا مصرّ على تعريف نفسه بأنه «عربي». ليس للرجل تعريف آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق