بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 8 يوليو 2014

إسرائيل والفلسطينيون وتغيير الخرائط - ماجد كيالي

أكد الفلسطينيون في وداعهم المهيب لشهيدهم الفتى محمد أبو خضير إلى مثواه الأخير، في القدس، إخفاق مساعي إسرائيل في تهويد هذه المدينة، وفشل محاولاتها تدجينهم وبيعهم أوهام تسوية، مع كيان لا يملك من مقومات السلطة شيئاً.
وبينما أثبت الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم، وضمنهم فلسطينيو 1948، في هذا اليوم، قوة هويتهم الوطنية، ومتانة إدراكاتهم لذاتهم كشعب، غابت قيادتهم السياسية، أي قيادة المنظمة والسلطة، التي بدت في حيرة من أمرها، بين موجبات إحساسها بمشاعر شعبها، وتعزيز موقفه الكفاحي، وبين مقتضيات التزاماتها كسلطة مع إسرائيل. وقد فاقم من ذلك، أي الفجوة بين هذه القيادة وشعبها، المقارنة بين ردة فعل الرئيس الفلسطيني على حادثة اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين، وحادثة اختطاف الفتى محمد وقتله، والتي لم تكن على المستوى المطلوب.

وكان أبو مازن ارتكب خطيئة عمره باختزاله توصيف المختطفين الإسرائيليين باعتبارهم بشراً، وفقط، من دون توصيفهم على حقيقتهم كمحتلين ومستوطنين، واعتبار وجودهم في الأراضي الضفة غير شرعي، وبمثابة اعتداء على الفلسطينيين وعلى حقوقهم. وقد بدا الرئيس الفلسطيني في كل ذلك كأنه لا يعرف أن المحتلين والمستوطنين والعنصريين، الذي يستخدمون القوة لفرض وجودهم، ليسوا من جنس الملائكة ولا غانديين ولا حمامات سلام ولا مجرد أطفال ابرياء، وأنهم لذلك يستحقون المساءلة والعزل والإدانة والمعاقبة والمقاومة.

عموماً قد يمكن تفسير كلام أبو مازن كنوع من رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي بأهلية الفلسطيني للسلام، بأي ثمن، لكنها رسالة خاطئة، لأن إسرائيل هي المحتلة، وهي التي تتملص من التسوية، حتى من وجهة النظر الأميركية. وهي رسالة في غير محلها لأن ثمة قطاعات واسعة من الإسرائيليين تتبرّم من الاستيطان ولا تؤيده، وتتذمر من المستوطنين، ثم إن المطلوب إشعار الإسرائيليين بأن الاحتلال والاستيطان يضرّان بهم، وأن ثمة ثمناً لهذا وذاك. كما أن المفروض بعث رسالة إلى المجتمع الدولي، الذي لا يقر بشرعية الاستيطان، لتحميل حكومة إسرائيل مسؤولية ما حصل، باعتبارها المسؤولة عن استمرار سياسة الاستيطان وحماية المستوطنين، وحتى تشجيع سوء سلوكهم وتصرفاتهم. عدا عن ذلك فإن أبو مازن بدا في كلامه كأنه يحمل أعراض تماثل الضحية مع الجلاد، أو تبني منطقه القائم على لوم الضحية، وتحميلها مسؤولية رفضها للاحتلال، أو مقاومتها لعدوانه. وفي الحقيقة فإن هذه العقلية بالذات هي التي صاغت اتفاق أوسلو (1993) الذي لم يعرّف إسرائيل كدولة احتلال، ولا الضفة وغزة كأراض محتلة، ولم يؤكد عدم شرعية الاستيطان، وهو ما يدفع ثمنه الفلسطينيون باهظاً منذ عشرين عاماً.

والحال فإن وقائع الأيام الماضية فضحت خواء التسوية الهزيلة، القائمة على حقائق القوة والسيطرة، وعقلية الغطرسة والغلبة، وسياسة الإجحاف بحقوق الفلسطينيين وامتهان كرامتهم، كما بيَنت عمق الهوة التي تفصل بينهم وبين الإسرائيليين، إذ كشفت الأحداث الحاصلة عن مخزون الغضب الذي يعتمل في قلوب الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم، طوال عقدين من التسوية، إزاء واحدة من أكبر عمليات الخداع في التاريخ، والتي تتمثل في تغطية واقع إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية، ومحاولة إبراء ذمتها، وتحسين صورتها، من دون أن يتغير في وضعهم شيء. بل إنهم ألفوا أنفسهم خاضعين لثلاثة أنظمة، فثمة سلطة فلسطينية شكلية، مع رئيس وحكومة وعلم ونشيد وسفارات، ترتبط بإسرائيل بعلاقات تنسيق أمني وتبعية اقتصادية وسيطرة إدارية. وثمة نظام فصل عنصري يتأسس على وجود نظامين سياسيين وقانونيين وأمنيين، واحد للمستوطنين والآخر للفلسطينيين. وثمة النظام الاستعماري الذي يؤمن لإسرائيل التحكم بالموارد مع الهيمنة السياسية.

القصد أن الفلسطينيين لم يشعروا، طوال العقدين الماضيين، أن الاحتلال تركهم، حيث قامت إسرائيل بفعل كل ما من شأنه إثبات العكس، إن بأنشطتها الاستيطانية ومصادرتها لأراضيهم ونهبها لمواردهم وهدمها لبيوتهم واعتقالها لشبابهم وتحكمها بمعيشتهم وتنكيدها حياتهم. حتى السلطة لم تسلم من كل ذلك إذ ظلت إسرائيل تتقصّد الحط من مكانتها وإظهارها على حقيقتها باعتبارها مجرد سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال.

طبعاً لا أحد يعرف إلى أين ستتدحرج المواجهات بين الفلسطينيين وإسرائيل، على خلفية خطف الفتى محمد وقتله حرقاً، وما إذا كان ما يحصل مجرّد موجة غضب، أو هبّة شعبية، أو انتفاضة ثالثة، فمن المبكّر الجزم بذلك، مع كل المقاربات بين هذه الحادثة وحادثة استشهاد الطفل محمد الدرة (2000) في بداية الانتفاضة الثانية، أو مع حادثة حرق البوعزيزي نفسه في تونس، والتي اشعلت ثورات «الربيع العربي».

لكن ما ينبغي الانتباه إليه أن عملية اختطاف محمد أبو خضير، من قبل عصابة من المستوطنين، والأحداث التي تبعتها، هي بمثابة جرس إنذار، ومؤشّر على تطور نوعي وخطير في علاقة الإسرائيليين المستوطنين في الضفة بالفلسطينيين، أي أنها ليست مجرد ردّة فعل على عملية خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، إذ أن هؤلاء اعتادوا الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومزروعاتهم، تحت سمع وبصر وحماية الجيش الإسرائيلي. مثلاً، ففي الشهر الماضي، نفذ المستوطنون 53 اعتداء، شملت دهس فلسطينيين والاعتداء عليهم، وهدم، واقتلاع أشجار وحرق واتلاف مزروعات، وتجريف اراض، وقد نتج عن اعتداءات المستوطنين اصابة 16 فلسطينياً بجروح مختلفة.

المعنى من ذلك أن إسرائيل، وفق السياسة التي تنتهجها، تدفع الأمور، عن قصد أو من دونه، لخلق واقع من الصراع بين المجتمع الفلسطيني والمستوطنين الإسرائيليين، بحيث تنأى بذلك عن مسؤوليتها عما يجري وفي نفس الوقت تقوم بالترويج لاعتبار الصراع الدائر مجرد صراع أهلي، بين مجتمعين، وحقين متساويين. وما يعزّز من ذلك أن المستوطنين مسلحون، ويحظون بحماية الجيش الإسرائيلي، وأن معظمهم ينتمون إلى التيارات اليمينية والدينية والعنصرية الأشد تطرفاً وفاشية. وهذا المحلل الإسرائيلي بن درور يميني تحدث عن تأليف «الحاخامين اسحق شبيرا ويوسف اليتسور كتاباً يبحث في الترخيص الشرعي بقتل الاغيار وإنشاء إدارة توراتية»، بل إنه تحدث صراحة عن ميول «داعشية» بقوله: «اذا كنا نعتقد أن الخلافة الاسلامية الظلامية موجودة وراء جبال الظلام فقط فإننا مخطئون لأنه يوجد بين ظهرانينا من يريد انشاء خلافة يهودية ظلامية هنا.» («يديعوت احرونوت»، 3/7)

هكذا، يخشى أن هذه هي اللحظة التي تنتظرها إسرائيل لتنفيذ خططها بشأن التغيير الديموغرافي، أو «الترانسفير» من القدس أو الخليل وربما الجليل، لتعزيز مكانتها، وفرض املاءاتها على الفلسطينيين، مستغلة في ذلك الظروف والاضطرابات في المشرق العربي، ومتشجعة من تغيير الخرائط الديموغرافية والسياسية في سورية والعراق (ربما يجدر بنا أن نتذكر في هذا السياق انكسار البنية المجتمعية لفلسطينيي سورية).

ويستنتج من ذلك أن الفلسطينيين معنيون، في ظل أحوالهم غير المؤاتية، بالتحسب لذلك، والتحكم بحركتهم، وترشيد أشكال كفاحهم، وتجنّب استدراجات إسرائيل لهم لمعركة غير محسوبة، تسهل عليها البطش بهم، وتنفيذ مخططاتها ضدهم. كما يستنتج منه اعتبار الصمود في الأرض، وردع اعتداءات المستوطنين، عنوانا للمقاومة، لأنهم، في هذه المرحلة، وحدهم في مواجهة إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، ولا يوجد في الواقع العربي والدولي ما يقيد حركتها أو طريقة تصرفاتها، لا سيما أن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست في حال ملائمة لإدارة عملية صراعية، في هذه الظروف، بسبب ترهل أحوالها وتحولها إلى سلطة ورهاناتها على التسوية والمفاوضة.

أما على صعيد القيادة الفلسطينية فربما أن تعزيز مكانتها، وجسر الهوة بينها وبين شعبها، يتطلب منها وقف التنسيق الأمني، كوظيفة لحماية إسرائيل، وحسم تقديم طلب عضوية فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية، وحض الجهود لإعادة بناء الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) على قاعدة مؤسسية وتمثيلية ونضالية.

حقاً، لقد أثبت الفلسطينيون في مراحل كثيرة استعدادهم العالي للتضحية ومواصلة الكفاح، لكنهم في هذه المرحلة أحوج إلى أقصى درجات الحذر والصمود والتضامن والحفاظ على الذات، أكثر من أي شيء آخر.

* كاتب فلسطيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق