> والحال ان هذا كله وفي حدّ ذاته، يجعل من «المقابسات» وان لم يكن كتاباً في الفلسفة الخالصة، نوعاً من التلخيص للمستوى الفكري الذي كان سائداً خلال العقود الاخيرة من حياة التوحيدي، طالما ان هذا الأخير يذكر في ثنايا كتابه اسماء عدد كبير من «المثقفين» الذين شاركوا في النقاشات، من السامري الى المصري ومن القوفي والصوفي وغلام زحل، الى ابن عبدان والحراني، وصولاً الى ابي سعيد السيرافي وأبي بشر متى (وهما اللذان تجابها في تلك المناظرة الشهيرة التي نجدها في كتاب آخر للتوحيدي هو «الامتاع والمؤانسة»)، مروراً بأبي الحسن العامري، وخصوصاً جماعة «علماء الاسماعيلية» الذين كانوا يروجون لأفكارهم تحت اسم جامع هو «اخوان الصفا» والذين كان التوحيدي اول من تحدث عن وجودهم وأفكارهم معتبراً اياهم «جماعة تآلفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهباً زعموا انهم قربوا به الطريق الى النور... وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال...».
> على رغم ان حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون» يقول ان عدد مقابسات الكتاب 103، فإن النص النهائي الموجود منذ زمن بعيد يضم 106 مقابسات ومقدمة وخاتمة... ومن الواضح اليوم ان ابا حيان انفق سنوات طويلة من حياته وهو يجمع مواد هذا الكتاب، والمواد هي اشبه بتسجيل حرفي لجلسات كان يعقدها مثقفو زمنه وشهدها وشارك فيها بنفسه، وكانت الحوارات فيها تدور من حول شتى الأمور التي كانت تشغل اذهان المثقفين في ذلك الزمن. اما سبب تأليف الكتاب فيتكهن به الباحث عبدالرزاق محيي الدين الذي وضع منذ اربعينات القرن العشرين واحداً من افضل الكتب وأوفاها عن التوحيدي وفكره، على النحو الآتي: «... اما سبب التأليف فهو، كما يبدو من المقدمة، ومن عبارات تناثرت في الكتاب، تحقيق رغبة تقدم بها احد الأثيرين عنده: من جمع مسائل في الفلسفة، وأخرى تجري مجراها في الادب والاخلاق، وكما يبدو انه لم يستجب لتحقيق رغبة هذا السائل (الذي لم يرد اسمه صريحاً، على عكس ما كانت الحال في كتب التوحيدي الاخرى حيث كان غالباً ما يذكر اسم الشخصية التي وضع الكتاب او صُنّف من اجلها او بناء على طلب منها)، «إلا بعد تلكؤ وتمنع منه، وإلا بعد تلطف وإلحاح من السائل» ولا يفوت محي الدين ان يذكر هنا ان التوحيدي يتوجه مرات بالحديث الى صاحب الرغبة في وضع الكتاب، ومع هذا يستنتج محيي الدين ان «يكون التوحيدي قد سيق الى تأليف الكتاب برغبة في نفسه، يثيرها الحرص على جمع ما اقبسه واقتبسه من اعلام عصره ومشائخه في هيئة الكتاب». ولعل النتيجة التي تترتب على هذا والتي يلمح اليها عبدالرزاق محيي الدين هي «احتمال ان يكون ابو حيان قد اصطنع الحوارات جميعاً على لسان فلاسفة عصره، مع انها اصلاً من وحي خاطره وبنات فكره».
> اما محمد كرد علي فإنه في كتابه «امراء البيان» يتحدث عن «المقابسات» ان «اكثره من محفوظ التوحيدي الذي ذكر فيه بعض ما وقع اليه من مفاوضات علماء مشهورين، كانوا في بغداد يختلفون الى مجلس صديقه وأستاذه ابي سليمان المنطقي السجستاني، وعنه اكثر مروياته فيتذاكرون في موضوعات شتى في الفلسفة او ما وراء الطبيعة والأدب وأكثرها من طريق السؤال والجواب، لرجال جمعت بينهم كلمة العلم والحكمة، وهذبت نفوسهم الآداب العالية، يتناجون بالأفكار الصحيحة والشاذة، ولم يفرق بينهم اختلاف نحلهم ومذاهبهم، وكان فيهم المجوسي والصابئي واليعقوبي والنسطوري والملحد والمعتزلي والشافعي والشيعي». ويورد كرد علي هنا ان مذهب هؤلاء في الفلسفة كان، على الارجح، مذهب ارسطاطاليس «شأن معظم فلاسفة الاسلام امثال ثابت بن قرة وحنين بن اسحاق ويعقوب بن اسحاق وأحمد البلخي ومسكويه والقمي والسرخسي والنيسابوري، يطلقون في جلساتهم الخاصة عنان افكارهم، ويخرجون عن القيود الكسبية قاصدين الى هدف واحد، وهو معرفة حقائق الاشياء مجردة لا تشوبها المؤثرات» ويخلص كرد علي محدثاً قارئه: «واذا احببت تعريف كتاب «المقابسات» بمصطلح أهل هذا العصر فقل: هو محضر جلسات المجمع العلمي البغدادي في القرن الرابع، وكان لا يحضرها إلا من يدعى اليها، ويوافق من اكثر الوجوه على ما يلقى فيها».
> واذا كان كتاب «المقابسات» يعتبر، بين مؤلفات ابي حيان التوحيدي، التالي في درجة شهرته بعد كتابه الاشهر «الإمتاع والمؤانسة» فإنه في الواقع يمت الى هذا الاخير بصلة ويشبهه الى حد كبير، وان كان يمكن في نهاية الامر اعتباره مصوّراً للمناخ الثقافي البغدادي في ذلك الحين اكثر من تصوير «الامتاع والمؤانسة» له. وللتوحيدي (الذي عاش على الأرجح بين العقد الثاني من القرن الهجري الرابع والعقد الاول من القرن الذي يليه، من دون الوصول الى تحديد دقيق لعامي مولده ووفاته) الكثير من المؤلفات بين كتب ورسائل، ومنها «البصائر والذخائر» و «مثالب الوزيرين» و «الصداقة والصديق» و «الإشارات الالهية» إضافة الى «الامتاع والمؤانسة» و «المقابسات» وهذه الكتب تعتبر من تأليفه بالتأكيد، اذ ثمة اخرى تثار من حول انتسابها اليه اسئلة وشكوك. ولقد عاش التوحيدي حياة غريبة، كانت حياة فقر، على رغم اتصاله بالوزراء، وكان دائم الشكوى والنواح دائم الجوع والقذارة، ولقد رُمي بالإلحاد والزندقة من قبل خصومه. وهو كان جلف الطباع متقلب الاهواء. وقيل انه في آخر سنواته لجأ الى زاوية في شيراز يتعبد فيها وينعى حظه التعس، كما يروى انه قبل وفاته جاءه من اشفق عليه يطلب منه ان يستغفر الله على ما اقترف لعله يغفر له، فقال غاضباً: «أترونني أُقدم على جندي او شرطي؟ انما أُقدم على رب غفور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق