بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 20 يوليو 2014

حبر وملح (من الميدان) - زاهي وهبي

أكثر مَن يخطر في البال وقت الحروب بعد المدنيين الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، أولئك المراسلون الميدانيون الذين يخاطرون بأرواحهم لأجل نقل صورة حقيقية من أرض المعركة، وغالباً ما يدفعون حياتهم ثمناً لنخوتهم وشجاعتهم وبحثهم عن حقيقة رغم وضوحها
يجعلها التعتيم الاعلامي المقصود أشبه بالبحث عن ابرة في كومة قش، خصوصاً في زمن اختلاط المفاهيم والمصطلحات حيث لم يعد القاتل قاتلاً ولا الجلاد جلاداً ولا المُحتل محتلاً، وصار الشهيد مجرد قتيل أو رقم عابر في نشرات الأخبار وعناوين الصحف.
يكفي أن نراجع احصائيات ضحايا الحروب من صحافيين وإعلاميين لنعرف كم يسقط من المراسلين الميدانيين في رحلة بحثهم الشاقة عن حقيقة ما يجري، ونتحدث هنا عن هؤلاء الشجعان في معزل عن السياسات التحريرية للوسائل الاعلامية التي يعملون فيها وتلجأ غالباً الى تقديم الخبر وصوغه وفق أهوائها وسياساتها الخاصة، ونعرف كم يعاني أحياناً المراسلون العرب الميدانيون العاملون في صحف وقنوات تلفزيونية غربية من سياسات الانحياز المطلق للاحتلال الاسرائيلي وعدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني، وبكل أسف فإن هذا الواقع المؤلم لم يعد وقفاً على الاعلام الغربي بل انتقلت عدواه الى كثير من إعلامنا العربي أيضاً.
الى المراسلين الميدانيين يحضر في البال المسعفون الطبيون العاملون في الأجهزة الصحية والدفاع المدني والمستشفيات فهؤلاء أبطال من نوع آخر، غالباً ما يسقطون شهداء وضحايا وهم في غمرة الانهماك بانقاذ حياة الآخرين فيتحوَّلون من مُسعفين الى مُسعَفين، وكم بدا بهياً مشهد ذاك الطبيب النروجي (مادس غيلبرت، متخصص بالتخدير وطب الطوارىء) الذي غادر بلاده وجاء الى غزة فور بدء العدوان الاسرائيلي عليها ليشارك زملاءه الأطباء والممرضين الفلسطينين العمل على انقاذ حياة الأبرياء وسط النار والبارود ودوي المدافع وهدير الطائرات، انطلاقاً من ايمانه بأحقية القضية الفلسطينية وتعاطفه مع بطولات شعبها، وهو في ذلك يقدم صورة مناقضة لمواقف كثيرين من أبناء جلدتنا ممن تعاطفوا مع المحتل وآلته العدوانية الفتّاكة.
نتعاطف مع أولئك الميدانيين في أصقاع الأرض كافة، وكذلك مع أولئك المنتشرين على امتداد خريطة الوجع العربي حيث الجراح أثخنت ليس فقط البلاد وأبناءها، بل أيضاً الضمائر والأفئدة، لكن، تظل للعاملين فوق التراب الفلسطيني خصوصية لا تشبه سواها، فكم من مصور اضطُرَ لتصوير بيته وهو يُهدم فوق حكايا طفولته وذكرياته الخاصة الحميمة، وكم من مُسعف عاد من مهمته في اسعاف الآخرين ليجد عائلته برمتها وقد أبيدت على يد الاحتلال الأبشع على مر التاريخ الحديث، ومع ذلك فأولئك الشجعان يواصلون مهمتهم الصعبة الشائكة لنقل الصورة الحقيقية لمقاومة الشعب الفلسطيني اليومية والأسطورية ضد احتلال بغيض لئيم ليس فقط لأنه يرتكب المجازر الوحشية، بل لكونه احتلالاً عدوانياً يؤكد صلفه وهمجيته كل يوم، فمجرد اغتصابه لأرض فلسطين هو عدوان يومي قائم بذاته.
يختلف المراسل الفلسطيني أو المسعف عن كل نظرائهما في العالم، لأن العامل في ميدان الأرض المحتلة يعرف أكثر من سواه حجم الجريمة ومقدار فظاعتها ويخاطر كما أسلفنا بحياته لأجل نقل صورة حقيقية عمّا يجري في وطنه وفوق أرضه، ومع ذلك فإن ثمة مَن يجلس في غرفة مكيفة مجهزة بأحدث الوسائل والتقنيات بعيداً من أرض المعركة يقتطع ما يشاء، يأخذ ما يناسبه أو يناسب سياسة الوسيلة الاعلامية التي يعمل وفق أجندتها، ويحذف ما يشاء مُبدلاً في الحقائق والوقائع قالباً اياها رأساً على عقب واضعاً الجلاد مكان الضحية، ومع ذلك يجهد أولئك المراسلون الشجعان في رواية الحقيقة الفلسطينية العارية العزلاء في مواجهة آلة الاحتلال الهمجية التي لا تعتدي فقط بالطائرات والدبابات، بل أيضاً بانحياز كثيرين للباطل الاسرئيلي ضد الحق الفلسطيني المنتصر في نهاية المطاف مهما اختلط الأمر على البعض سواء نطقوا بلغة الضاد أو سواها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق