بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 يوليو 2014

حبر وملح - تغريدٌ أم نعيق؟ زاهي وهبي

في مثل هذه الأيام (8 تموز - يوليو 1972) استشهد الأديب المناضل غسان كنفاني وابنة شقيقته الطفلة لميس على أيدي الموساد الاسرائيلي في بيروت، والى كنفاني اغتالت دولة الاحتلال عشرات المبدعين الفلسطينيين الذين قاتلوا وقاوموا
بالكلمة المتوهجة المضيئة الملتزمة، لم يكن اغتيالهم مجرد عمل ارهابي أرعن من دولة الارهاب الأولى في العالم، بل عملاً مدروساً بعيد المدى يهدف الى حرمان القضية الفلسطينية من نخبة المدافعين عنها وخيرة المساهمين في تشكيل وعي جمعي فلسطيني عربي عالمي مدرك لحقيقة الكيان لغاصب ولعدالة القضية الفلسطينية، ومَن غير الأدباء والفنانين قادر على مثل هذه المهمة الجسيمة التي تصدى لها كنفاني ونظراؤه بوعي وادراك قلما نظيرهما، ولو أعدنا قراءة أدب كنفاني على ضوء ما يحصل الآن في فلسطين والوطن العربي لأكتشفنا مجدداً كم كان رؤيوياً واستشرافياً ومدركاً لأبعاد القضية وللمخاطر المحدقة بها، ولعل جملته الشهيرة ومفادها أنه اذا كنا ندافع بشكل سيئ عن القضية علينا تغيير المدافعين لا تغيير القضية، تختصر كلَّ ما نحن فيه الآن.

نسوق هذا الموقف وغزة تحت وطأة وحشية العدوان الاسرائيلي الذي يستفرس عليها ويستفرد بها مرةً تلو مرة فيما الشعوب العربية غارقة في حروبها ومآسيها، ولئن كان يوجعنا ويفجعنا ما يجري في مصر والعراق وسورية واليمن وليبيا والسودان والصومال وسواها من أمكنة الجراح العربية النازفة، فمن غير الجائز أبداً أن يقودنا فقدان الادراك والبوصلة الى مواقف أقل ما يقال فيها أنها نافرة ومقززة لا يجوز أن تصدر عن عربي أياً كان موقفه وموقعه، نحترم كل الآراء والمواقف وحق الاختلاف ما دام هذا الاختلاف لا يقود الى القتل والذح والتكفير والتخوين من أي جهة أتى، لكن نتيجةً للتفتت الحاصل في جسد الأمة من محيطها الى خليجها يبدو الوعي الجمعي الذي كان يوماً أشبه بقلب واحد ينبض على ايقاع فلسطين قد أصيب بالتشظي والتفتت حتى اختلط الأمر على البعض ولم يعد قادراً على التمييز بين الاحتلال ومناهضيه، بين المعتدي والمعتدى عليه، وهل ينبغي التذكير دائماً أن مجرد وجود الاحتلال على أرض فلسطين هو عدوان يومي مستمر، فكيف الحال وهو يقتل البشر ويدمر الحجر والشجر وكل ما استطاعت آلته العسكرية المتغولة الوصول اليه.

المخزي أنه بينما يسقط مقاومو فلسطين شهداء بنيران الاحتلال ويسقط معهم أطفال ونساء وشيوخ في ظل صمت عربي ودولي مريب ومدان، تخرج علينا أصوات «مغردة» بالدعاء لنتانياهو وجيشه الارهابي داعية اياه الى الاستمرار في قتل الفلسطينيين بذريعة أن بعض قياداتهم أخطأت هنا أو هناك، والأنكى أن تلك «التغريدات» لا تصدر فقط عمن يمكن ادراجهم في خانة الدهماء التي غُسلت أدمغتها وبلغ بها الجهل مبلغاً خطيراً، بل تصدر عن أناس يحملون صفات وألقاب تضعهم في مصاف النخبة المثقفة وبينهم كتّاب وصحافيون وناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي والميديا الحديثة، فهل يعقل أننا وصلنا الى زمان بات فيه نتانياهو مخلّصاً في نظر بعض «نخبنا» و «مغردينا» الذين غدوا أشبه بالغربان الناعقة فوق المقابر، وما أكثرها للأسف في أوطاننا التي أختار بعضُ أبنائها الهويات الطائفية والجهوية القاتلة عوض الهوية الوطنية الجامعة نتيجة لعقود من القهر والاستبداد، ولفشل الحركات القومية والوطنية التي أخلت الساح للتيارات الدينية المتطرفة.

لا أحد ينكر أن بعض القيادات والقوى الفلسطينية ارتكبت أخطاء كثيرة تجاه هذا البلد العربي أو ذاك وهي أخطاء مرفوضة، وتلك القيادات مدعوة اليوم قبل الغد الى مراجعة تجاربها والاعتراف بما أصابها من خلل أو زلل على امتداد مسيرة نضالية تغطي عقوداً من الزمن، لكن لا يجوز أبداً ومهما كانت أخطاء القيادات الفلسطينية أو خطايا الأنظمة العربية، أن نحاسب شعباً يناضل ويجاهد ويقاوم في سبيل حقه المشروع بالحرية والاستقلال بجريرة ارتكبها هذا الفصيل السياسي أو ذاك، لنا حق النقد والاعتراض على سياسات البعض وعلى مواقف القادة هنا أو هناك، لكن ما لا يقبله عقلٌ أو ضمير أن ينبري «مغردون» يدعون الثقافة والمعرفة لادانة الضحية وتأييد الجلاد والشماتة بفلسطين وأهلها الذين يقاومون باللحم الحي والصدور العارية أعتى ألة عسكرية متوحشة في سبيل حقهم المشروع بوطن حر مستقل أسوة بكل شعوب الدنيا، وهم يستحقون منا جميعاً ومن دون استثناء ما هو أكثر من التصفيق والدعاء.

حقاً ان التغريد يصدر عن العصافير الجميلة المحلقة أما النعيق فلا صفة لأصحابه سوى أنهم غربان يريدون فلسطين جثةً هامدة لا حياة فيها ولا مقاومة للاحتلال، لكنهم خسئوا وخسأ الاحتلال، سيظل الشعب الفلسطيني صاحب أنبل قضية قادراً على انجاب أمثال كنفاني ورفاقه ممن يضيئون العقل ويبثون بصيص الأمل رغم كل هذا الظلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق