بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 يوليو 2014

فلسطين رابحة… إسرائيل خاسرة معادلة ليست مستحيلة؟ مطاع صفدي

واضح أن النظام العربي لا يرحب معظمه بإطلاق حرية غزة من أسر الحصارين معاً الإسرائيلي والعربي. فالتحالف بين النظامين تجاوز كونه أمراً موضوعياً، لكي يغدو مصلحياً واستراتيجياً. ليس ذلك فقط لأن غزة واقعة تحت سلطة حركة حماس. بل لأن تحرر غزة، هذه الكتلة الكبيرة والكثيفة من جذور الشعب الفلسطيني، سوف يساهم ويعجل من انقيام الوحدة الديمقراطية للدولة الفلسطينية القادمة، والتي ستكون، هذه الدولة، بدورها متحررة من نظام المقاطعة (الأبارتية) المقودة من محمود عباس وزمرته الفَتْحوية. ما يعني أن مخطط العدوان الإسرائيلي على القطاع الغزاوي قد باء بالفشل ليس في هدفه العسكري وحده، بل في المسعى الكلي للصهيونية المتشبث بمنع انقيام حر لدولة الجمهورية الفلسطينية الناجزة في استقلالها وسيادتها لحساب شعبها.
غزة المقاومة تجتاز حرب الفصل الأخير، المختلف عن كل واقعاتها الكفاحية السابقة. حربها الراهنة لم تعد وقفاً أو صداً لعدوان طارئ، لكن نجاحها يعيد إحياء مشروع «تحرير فلسطين»، ينتشله من رميم ذاكرة وطنية وقومية متناسية لمنطلقاتها التاريخية. هذا ما أدركه قليلاً أو كثيراً المراقب الغربي الذي خوّل وزير الخارجية الأمريكية صلاحياتِ السفير شبه المقيم في أرض الصراع متنقلاً بين عواصمها ليلاً نهاراً، ملتقياً مع رموزها السلطانية والبعض من نماذجها الأهلية، فلا أحَد من أشخاص هذا الرَهْط يريد للمسعى المعلن في وقف الصراع أن يتعدى حدوده الظرفية، أن يصبح تحرير غزة من الحصار سبباً موضوعياً ممهداً لتحرير فلسطين من الاحتلال وأعوانه المحليين. هذا بالرغم من طول المسافة بين هذين الهدفين نظرياً على الأقل، إلا أن كل حدث تاريخي فاصل في حياة الأمم مثلما يأتي فجأة غالباً كذلك ستكون نتائجه صنيعة لمقدماته عينها دون أية تدخلات غريبة عن سياقاتها عينها.
مالا يطيقه المخيال الصهيوني هو أن ينشئ الفلسطينيون دولتهم بفضل كفاحهم الشعبي. هو أن تكون المحصلة الواقعية لفشل العدوان بداية تاريخيةً لاستقلالِ فلسطين محتوم. من هنا يخوض الوزير كيرى ورهطه العربي. معاركَ باطنة أكثر منها ظاهرة عبر لقاءاته ورحلاته المكوكية من أجل الفصل ما بين هدف لوقف القتال والهدف الآخر المطالب برفع الحصار كاملاً عن القطاع. إذ لم يعد مجرد عقاب اقتصادي، بل استخدمته اسرائيل كسجن حقيقي جماعي لشعب حي ومتطور، وربما كان سيتحول السجن الى ما يشبه مقبرة لمجتمع وحضارة.
هذا الحصار ليست اسرائيل مسؤولة وحدها عنه. إن لها وظيفة حراس السجون الإرهابية أو المعتقلات الشمولية. لكن النظام العربي الحاكم كأنه هو الذي ينتدب اسرائيل بالنيابة عنه لمهمة الاعتقال وإدارته. فالصهيونية شرعت في تقسيم فلسطين، لكن النظام العربي رسّخ هذا التقسيم ما أن تقبّل ورعى نظام السلطة الوطنية في الضفة، وتعامل معها كما لو أمست هي دولة فلسطين، هذا الواقع التقسيمي بأيدي فلسطينية أسقط حمولة ثمينة من معاني (القضية) أخلاقياً. فقد أمست تقاليد الكفاح تحت أعلامها قابلة للتحريف المتمادي تحت مؤثرات الفئويات والتحزبات ومصالح التسلط السياسوي والتربّح الاقتصادي؛ فإن شرذمة (القضية) أيديولوجياً وتسلطياً فرض خارطةَ تقسيمٍ بفعل ذاتي ـ وطني ما بعد التقسيم الأول الجغرافي السياسي، الموصوف بالدولي لكامل الوطن الفلسطيني.
أما الجماهير العربية الحاضنة لفلسطين «القضية» فلم تعد تعرف أيةَ فلسطين عليها أن تناضل من أجلها، هل هي الفَتْحوية أم الغزاوية الحماسية. كارثة التقسيم الثاني ـ الوطني هذه، كان لها أخطر أثر في انكفاء الرأي العام العربي عن مركزية الهم و الاهتمام بالمسألة التحريرية للوطن الفلسطيني السليب. كان ذلك هو الجو المساعد لبروز النزعات المضادة لبدهيات التقدم القومي، فتجرّأ النظام العربي على كشف مكوناته الأصلية التي اعتاد تغليفها بأساليب النفاق السياسوي الفوقي. في حين أنه لا يرى في اسرائيل مشروعاً مختلفاً عن أنظمته أو أنها مضادة لها كلياً. بل ربما كان الأمر على العكس من كل الشعارات العامة المعروفة. فإن زراعة الكيان الاسرائيلي وسط الغاب المحلي الحاكم هو تجديد لجذوره الموشكة على التحلل. لن تكون اسرائيل قلعة بالنسبة لبُناتها الوافدين. إن لم تصبح هي الواعدة الموعودة بصنوف النجدات والمعونات في أوقات الشدائد القادمة ضد رياح التغيير القادمة على طغاة المنطقة لا محالة في أقرب مستقبل
فكّ الحصار عن غزة سيكون عنواناً جزئياً لتغّيرٍ مباشر في كل ما هو فردي وجماعي في حياة القطاع. سوف تختلف غزة عما كانت عليه طيلة المرحلة الحصارية العاتية، بل ومفترقة عما كانت عليه حتى قبل هذه المرحلة المرة. ولعل السياسة في القطاع سيكون لها النصيب الأوفر من حركات التغيير. فالتخلص من الاعتقال الإسرائيلي، سيتبعه التفلت المتسارع من كل تسلط أهلي محلي، حتى ولو كان الأمر يتطلب كسوراً كثيرة لروابط العلاقة المتشابكة بين «حماس» ومجتمعها. فالسؤال المنتظر حول المنتصر الأول ما بينهما سوف يطلق العديد من الأسئلة الأخرى المكبوتة طيلة تجربة الحكم المنفرد للحزب الواحد، مهما تكن له من مزايا وأفضليات متخيلة. لكنه كاد أن يتحول إلى نسخة أخرى عن نموذج النظام العربي.. إلا أن تجربة العدوان الراهن، وما أبلى خلالها الجميع من أمثلة التضحيات والبطولات، وما تكبده الجميع تقريباً من المصاب في الأهل والجار، في المَلُك والرزق.. إنما تشكل مؤونة فكرية وعاطفية لإعادة بناء مشتركة لمجتمع المواطنين الأحرار. ذلك هو تصور مثالي لم يعد غريباً التأمُل في معانيه منذ أن أحدث الصمود الحالي ضد العنوان فارقاً جوهرياً ما بين كوارث الماضي التي، كان لا يتمّ التصدي لها إلا بكوارث أخرى، وبين الملحمة الراهنة، وفيها يكاد يتحد العقل المخطط والعزْمُ المنظم ليكبح العدو المجهز بكل آلة قاتلة حديثة ما عدا شجاعة الجندي العادي، هذه البضاعة التي لا تعرفها مصانع تل أبيب ونيويورك بعد.
التصور المثالي لا ينتقص شيئاً من حقائق اللوحة الواقعية لمجريات العنف الإسرائيلي بعد أن أعجزته كل عادات الوحشية، فلم يتبق له إلا أن يبتكر منهج القتل الجماعي، القضاء الكلي على العائلات المسالمة ذلك هو «الإبداع» الشيطاني الأخير، العاجز حتى عن إثبات نجاعته الدموية المطلقة.فبعد أن نجح في تحييد جيوش الدول المنسحبة سياسياً من ثقافة الحرية، وبعد أن نجح قليلاً وانهزم أكثر في محاربة الأحزاب العسكرية، فإنه لم يتبق له إلا تجربة المنازلة مع الوجود الإنساني للمجتمع العربي المعادي له. هنا تغيرت أمور كثيرة لم يكن أسياده يحسبون لها أقل حساب. لقد فتح قادة اسرائيل باب الصراع مع عمق المجتمع الفلسطيني، وكل مجتمع عربي حوله.. هذا تصور مثالي؛ لكنه أصبح شائعة متداولة. وتلك هي بداية برهانه الواقعي.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق