بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 17 أبريل 2014

«حياتي وسجوني» لجواهر لال نهرو: السياسة من مسافة ما -ابراهيم العريس

هل يذكر أحد في العالم الثالث اليوم ذلك الرجل الذي كان خلال الربع الثالث من القرن العشرين واحداً من كبار الزعماء الذين جددوا في الفكر السياسي وفي أساليب الحكم، بل حتى في الأخلاق السياسية، ولا سيما في بلدان ما كان يسمى: الدول النامية؟ هل يذكر أحد البانديت جواهر لال نهرو؟ لعل من سوء حظ هذا الزعيم الهندي الكبير أن ذاكرة البائسين ضعيفة... وهو كان مثلاً أعلى لبائسي العالم. وربما يكون من سوء حظه كذلك أنه حتى حين ترك ميراثه السياسي لابنته، ثم لأحفاده، اختفى اسمه تماماً، لأن الابنة كانت تحمل - بالزواج - اسماً كان أكثر من اسمه لمعاناً في فضاء القرن العشرين: غاندي. ابنته التي واصلت خطه السياسي من بعده حتى قتلها الإرهاب غيلة كان اسمها أنديرا غاندي، وبقية العائلة، رجالاً ونساء، سواء بقوا أو اغتيلوا بدورهم كانوا ينتسبون في أسمائهم إلى المهاتما غاندي، الذي كان نهرو حواريّه الأول وتلميذه الأكبر، في شكل من الأشكال. وعلى هذا النحو تمكن غاندي من الاستمرار اسماً لامعاً في سماء الهند وفي سماء السياسة العالمية، فيما اختفى نهرو، منذ رحيله... بل لنقل، منذ الهزيمة الكبرى - على مسرح الحرب الباردة وجديد العالم على ضوء انهيار مستقبل الاتحاد السوفياتي قبل انهيار حاضره - لدعاة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز من ذوي أسماء كانت محبوبة وفاعلة في زمنها، من اليوغوسلافي تيتو، إلى المصري عبدالناصر، مروراً بالإندونيسي سوكارنو وغيرهم. إذاً، حديثنا هنا عن نهرو، زعيم الهند ورجل سياستها الأكبر منذ استقلالها وانفراطها إلى دولتين، واحدة هندوسية تعددية اشتهرت بأنها «أكبر ديموقراطية في العالم» (الهند)، والأخرى إسلامية فقط وتعتبر دائماً أدنى إلى الحكم الدكتاتوري (باكستان).

> وحديثنا يتناول، هنا، بالتحديد، كتاباً نشره جواهر لال نهرو في عام 1942، وكان في الثالثة والخمسين من عمره، بعنوان «حياتي وسجوني». وهو حين كتب هذا النص ثم نشره، لم يكن قد صار بعد، الزعيم الكبير الذي سيصبحه لاحقاً، حاملاً هموم الهند وإرث أستاذه غاندي. ومن هنا فإن هذا الكتاب يأتي في زمنه المبكر، بريئاً إلى حد كبير، تلقائياً إلى حد كبير، لأن الرجل إذ كان لا يزال مناضلاً ضد الاستعمار الإنكليزي، سائراً على خطى أستاذه في سياسة اللاعنف، ومبادئها، تمكّن من إنجاز النص من دون أن يضطر إلى إجراء حسابات سياسية ومراعاة خواطر تحالفية. ومن هنا لم يكن من المصادفة في شيء أن ينظر كل الذين قرأوا «حياتي وسجوني» إلى صاحبه في ذلك الحين بصفته رجلاً لامعاً عرف كيف يدوّن ما كان عاش من حياة وكفاح حتى ذلك الحين، بلغة هي الأصلح لتاريخ مفكر ومناضل نزيه، متوقد الذهن، واقعي وبسيط كل البساطة في اختياراته وقراراته. لقد تبدى نهرو من خلال هذا الكتاب، وبشهادة كبار المفكرين الغربيين الذين قرأوه، «إنساناً يعتبر نموذجاً لفكر يحلم بأن يحوز مثله أي سياسي أوروبي»، بل حتى: لفكر يحلم أي مواطن أوروبي بأن يكون سياسيوه حائزينه.

> وإذا كان كتاب «حياتي وسجوني» نظر إليه على هذا النحو، فما هذا إلا لأنه لم يكن كتاباً عادياً، ولأن الفكر الذي كان يقف خلفه كان فكراً أصيلاً تحليلياً عقلانياً يسمي الأشياء بأسمائها، ويضع، في طريقه، للسياسة معايير وضوابط ربما تتناقض كلياً مع الإرث الماكيافيللي أو الإرث البسماركي، الذي يحكم عادة مواقف معظم سياسيي العالم وتصرفاتهم. إذا ما لدينا هنا إنما هو درس في الأخلاق قبل أي شيء آخر. ومع هذا، فإن كل ما تحويه صفحات الكتاب إنما هو سرد لحياة نهرو خلال العقود الخمسة الأولى من حياته. لكنه كان - وهذه ميزته الأساسية - كتاباً في السيرة الذاتية همه الأساس أن يقترب من الأحداث نفسها، ولكن من دون أن يزعم لنفسه حق (أو واجب) التدخل المباشر فيها. فنهرو ما كان يريد من كتابه هذا أن يكون سرداً ميكانيكياً، ولو أميناً للأحداث. ولا حتى كان يريد له أن يكون تحليلاً لتلك الأحداث. بل كان يريد منه أن يكون جردة حساب شخصية - وغير مكتملة - للماضي... منظوراً إليه انطلاقاً من تأثير مجرياته في عقل صاحب السيرة، لا أكثر ولا أقل. إذاً - مرة أخرى - نحن هنا أمام سيرة عقل وسيرة نفس، أكثر منا أمام سيرة حياة. لأن أكثر ما كان يهم نهرو هو أن يصف تطوره الفكري والأخلاقي الداخلي تحت تأثير ما يحدث من حوله. وليس معنى هذا - طبعاً - أن الكتاب يتسم بنظرة مركزية ذاتية، لا تهتم بالعالم إلا بمقدار ما يؤثر فيها هذا العالم. معاذ الله! ما يريد رسمه نهرو في كتابه كان، تحديداً، إعطاء صورة، يعرفها جيدة ومرسومة عن خبرة، للطريقة التي تفعل بها الأحداث في الإنسان، سلباً أو إيجاباً. فالذات هنا - ذات الكاتب - لا تُستخدم أكثر من كناية عن الإنسان وقد قرر أن يستخدم عقله ويتخذ من كل حدث يمر به، هادئاً أو عاصفاً، خطوة إضافية تقربه إلى صفاء الذهن، وإلى الكمال. ولا ينكر نهرو في أي صفحة من صفحات كتابه هذا، أن السعي إلى الكمال، إلى الاقتراب من العلى قدر الإمكان، هو ما ينبغي أن تكون عليه غاية كل إنسان.

> ومن هنا تتوالى الأحداث والأحاديث واللقاءات والتشابكات في «حياتي وسجوني» ليس انطلاقاً من موقعها في تسلسل فصول التاريخ، بل انطلاقاً من قدرتها على - وإمعانها في - تطوير شخصية صاحب العلاقة، وبالتالي - ولأن صاحب العلاقة ليس في نهاية الأمر فرداً معزولاً عن مجتمعه - تطوير شخصية المجتمع وتعديل مساره وتطلعاته إلى الأفضل في كل مرحلة، بل في كل لحظة من تاريخه.

> غير أن هذا الجانب الذاتي والفكري لم يمنع الكتاب أبداً من أن يكون صورة بانورامية شاملة لتاريخ الهند الحديث (أي منذ بداية القرن العشرين وحتى زمن وضع الكتاب)، إذ ما كان في الإمكان أصلاً، أن يكتب نهرو تاريخ تطوره الفكري والأخلاقي الخاص، إن لم يرسم صورة خلفية واسعة الأفق والمساحة، لذلك التاريخ «الخارجي» الفاعل. ولأن الرجل لا يريد أن يضيع في متاهات أكاذيب السياسة ومتواليات التاريخ، تبريراً وشرحاً، نراه يمارس أقصى درجات التبصّر والصدق في رسمه لتلك اللوحة البانورامية... مع أنه يحرص في كل لحظة على ألا تبدو هذه اللوحة سوى من خلال تأثيراتها الذاتية، ومن هنا ما لاحظه الذين تناولوا هذا الكتاب بالعرض والتحليل، كيف أنه يستحيل في الكتاب العثور ولو على إشارة عابرة إلى عدد لا بأس به من أسماء أشخاص، كانوا يلعبون مع هذا، دوراً ما في تاريخ الهند، بل حتى في تاريخ جواهر لال نهرو في ذلك الزمن.

> مهما يكن من أمر، فإن المؤرخين لا يتوقفون عن تذكيرنا بأن زمن كتابة هذا النص كان يتطابق مع واحدة من أكثر الحقب ألماً وعذاباً في حياة نهرو. غير أن هذا لم يصبه باليأس، هو الذي اعتبر، منذ البداية، العمل السياسي عملاً رسولياً، مانعاً بذلك أي عقبة من أن تسد طريقه. ولا حتى السجون التي يصف نهرو إقامته فيها معتقلاً، تسع مرات خلال الحقبة بين 1922 وبداية الأربعينات... ولا حتى المآسي العائلية الخاصة. ومهما يكن، فإننا نعرف أن كل ذلك وما شابهه من أحداث سبقت نشر الكتاب، لن تكون شيئاً بالمقارنة مع ما سيلي نشره، وانعكاسه بدوره على حياة نهرو وفكره، حتى نهاية حياته، من تقسيم الهند واستقلالها، واغتيال معلمه وصديقه غاندي، ثم لاحقاً كل ضروب الفشل التي أصابت سياسات عدم الانحياز. ونعرف على أية حال أن نهرو (1889 - 1965)، كان أول رئيس حكومة للهند المستقلة... وكان من كبار سياسيي العالم في زمنه. وما كتاب «حياتي وسجوني» سوى سرد ما - قبل - تاريخ ذلك الرجل وذلك السياسي، الذي كان يبدو على أية حال دائم الابتسام والهدوء على رغم كل شيء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق