بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 17 أبريل 2014

على ماذا يحتج السفير الإسرائيلي في نيويورك؟ رغيد الصلح *

في المذكرة التي رفعها السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة إلى الأمين العام للمنظمة، طغت لغة الإمرة التي كان يستخدمها كضابط مدفعية سابق في الجيش الإسرائيلي على اللغة المهذبة التي تستخدم في المنظمات الدولية وفي الأروقة الديبلوماسية، فقد تضمنت المذكرة ما هو أقرب إلى إصدار تعليمات إلى بان كي مون بإيقاف ريما خلف، المديرة
التنفيذية لمنظمة «الإسكوا»، عن العمل ريثما يجري التحقيق معها بتهمة «معاداة السامية». لقد بلغ الطابع الاستفزازي لمذكرة السفير رون بروسور حداً جعل المعلقة الإسرائيلية أميرة هاس تصفها بأنها تنطوي على «احتقار عميق لأقطار المنطقة التي نعيش فيها وللقضايا التي يعانون منها، وعلى إسراف في استخدام اتهام اللاسامية من شأنه تجريد هذه اللفظة من معناها وإفقادها التأثير المتوخى منها». فما هي الأسباب التي أثارت غضب السفير الإسرائيلي، والتي دفعته إلى شن تلك «الغارة» على موقع «الإسكوا» وعلى أمينته العامة؟

تعود الغضبة الإسرائيلية إلى أكثر من سبب. من بين هذه الأسباب، كما شرح بروسور، تطرُّق التقرير إلى العلاقة بين النازية والصهيونية. والحديث عن هذه العلاقة يسبب للجماعة الحاكمة في إسرائيل العديد من المشاكل ويفتح الكثير من الملفات التي يرغب نتانياهو وصحبه في دفنها تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية.

أخطر هذه الملفات هو ملف التعاون مع النازيين الذين ارتكبوا واحدة من أبشع الجرائم التاريخية، أي جريمة المحرقة. ولقد حاولت إسرائيل إتلاف هذا الملف كلياً عبر توجيه الاتهام ذاته إلى كل من تجرأ على فتحه ولو بصورة ملطفة ومخففة. وكان من بين هؤلاء المؤرخ فرانسيس نيكوسيا، الذي وضع كتاباً بعنوان «الرايخ الثالث والقضية الفلسطينية». تحدث نيكوسيا في هذا الكتاب عن اتفاقية «التسفير» بين النازيين والمنظمات الصهيونية في ألمانيا. واستند إلى مراجع أولية ودقيقة من الأرشيف البريطاني والأميركي والصهيوني وغيرها من المصادر المهمة. وكان دقيقاً، بل ومتحفظاً في عرضه الوقائع وفي الاستنتاجات. وعلى رغم ذلك، تقدم الصهاينة بشكوى ضده، وردّت المراجع القضائية هذه الشكوى بعد أن أكد العديد من المؤرخين البارزين في بريطانيا والولايات المتحدة دقة المعلومات التي ضمّنها نيكوسيا كتابه، وابتعاده عن التحيز، سواء للصهيونية أو لخصومها.

وفي مناسبة مماثلة، كانت ردة فعلهم على الكاتب الأميركي ليني برينير شبيهة بردة فعلهم على نيكوسيا، عندما وضع الأول كتاباً بعنوان «الصهيونية في عصر الديكتاتوريين» ضمّنه مقتطفات من المذكرة التي وجهتها المنظمات الألمانية الصهيونية إلى هتلر تحدثت فيها عن أوجه التطابق بين الصهيونية والنازية، وعن رغبتها في التعاون مع هتلر في إطار الدولة التي يحكمها النازيون. لم يرد الصهاينة على برينر بمناقشة مضمون كتابه، ولكنهم ردوا على الكتاب بحملة من الشتائم والافتراءات واتهام برينير بأنه «كاره نفسه» لأنه يهودي.

تضمن الكتابان صفحات كثيرة عن اتفاقية التسفير وعن التعاون الوثيق بين النازيين والصهاينة، الذي تجاوز ترحيل اليهود الألمان إلى فلسطين لكي يشمل التنسيق ضد المنظمات اليهودية الألمانية الاندماجية. وكان المجال الأبرز على هذا الصعيد هو العمل المشترك ضد مبادرة المقاطعة الاقتصادية التي سعت المنظمات اليهودية الاندماجية، وخاصة خارج ألمانيا لتنفيذها ضد النظام النازي. وكان التعاون في هذا المجال مفصلاً مهماً في تاريخ العلاقة بين الجانبين. ولقد أثبت الصهاينة الألمان فائدتهم هنا إذ لعبوا دوراً مهماً في تعطيل المقاطعة اليهودية للنظام الهتلري.

هذه الوقائع تدل على أهمية المنافع المتبادلة بين طرفي اتفاقية «التسفير» التي استمرت حتى نهاية الثلاثينات تقريباً، لكن هذه النجاحات قابلها توتر في العلاقة وتعميق في الشرخ بين اليهود الاندماجيين، الذين كانوا يمحضون ولاءهم القومي إلى الدول التي كانوا ولدوا وعاشوا فيها، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبين اليهود -وغير اليهود- الصهاينة. ولقد جسدت المفكرة اليهودية الألمانية الأصل حنة أرندت هذا الصراع بين الفريقين، فهي كانت ناشطة صهيونية، إلا أنها ما لبثت أن أخذت تبتعد عن الصهاينة وتوجه الانتقادات إلى الصهيونية لأسباب عديدة، منها تاريخها مع النازية ونظرتها إلى الجوار العربي. وكان هذا الخلاف على أشده مع المنظمات الصهيونية الشديدة التطرف، مثل الـ «أراغون»، بحيث طالبت هي وعدد من مشاهير اليهود، مثل ألبرت آينشتاين بمنع مناحيم بيغن، الذي وصفوه بـ «الإرهابي»، من دخول الولايات المتحدة.

وإضافة إلى التحفظات القوية لأرندت على ماضي الصهيونية وعلاقتها مع النازيين، فإنها لم تكفّ عن تحذير الإسرائيليين من المأزق التاريخي الذي تقودهم إليه الصهيونية، إذ إنها ولو حققت الانتصارات العسكرية المتوالية وتمكنت من الاستيلاء على فلسطين بمجملها وعلى الأردن، فإنها سوف تبقى في نظرها بلداً صغيراً محوطاً بشعوب معادية وأكثر عدداً بما لا يقاس من الإسرائيليين، كما تنبأت في كتاب صدر عام 1978 بعنوان «اليهودي كمنبوذ».

عبرت أرندت، التي توفيت خلال السبعينات، عن رأي واسع بين اليهود، فهل لا يزال هذا الرأي موجوداً اليوم بين اليهود وبين الإسرائيليين؟ إن هذا الرأي لا يزال موجوداً، وهناك أسباب وجيهة لكي يزداد تأثيره على الحياة العامة، فالمضي في بناء المستوطنات يدفع الفلسطينيين إلى الحائط، ويضطرهم إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بشتى الأساليب وأكثرها فاعلية، سواء بالعصيان المدني أو بغيره. ومن يتابع الجدل الذي تطلقه السياسة الإسرائيلية يدرك خطورة النزعة المغامرة التي تقود السياسة الإسرائيلية. لقد نبه المفكر الأميركي اليهودي توني جدت قبل وفاته أخيراً، إلى الخطر الذي يهدد إسرائيل إذا استمرت «في السير على طريق التعصب والانغلاق الإثني والاعتقاد بدورها الخلاصي». ودعا جدت إلى الاستماع إلى أصوات الفلسطينيين والتفتيش عن حل يتجاوب مع تطلعاتهم الوطنية. وصاغ توماس فريدمان، المعلق الإعلامي المعروف، في صحيفة «نيويورك تايمز» الدولية، قبل أسابيع قليلة، بعض هذه الأفكار بأسلوبه الساخر، إذ اعتبر أن المتعصبين اليهود والمسلمين يتعاونون بعضهم مع بعض على استمرار الحروب في الشرق.

ولكن الذين يملكون مفاتيح القوة في إسرائيل وفي الشتات الإسرائيلي، ليسوا على استعداد لسماع مثل هذه الأصوات، كما أنهم ليسوا على استعداد للتغاضي عن صدور تقرير عن التكامل الإقليمي العربي يتضمن نقداً قوياً للوضع العربي الراهن ودعوة إلى إصلاحه جنباً إلى جنب مع نقد موجه إلى العلاقة المشينة بين الصهيونية والنازية، وإلى دلالات هذه العلاقة في أيامنا الراهنة. ولا ريب في أن هناك دلالات مهمة لذلك الفصل التاريخي، فالعقل الذي خطط لمثل هذه العلاقة هو نفسه الذي يتحدث عن اتفاقية التسفير وكأنها من صنع الخيال، والذي يتجاهل انحياز الهتلرية إلى جانب اليهود الصهاينة على حساب اليهود الاندماجيين، هو نفس العقل الذي يتجرأ على تقديم شكوى إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، بحجة أن هذه الوقائع هي مجرد اختراع. وهذا العقل هو نفسه الذي يلقى الترحيب الكبير والتأييد الأكيد في الأحزاب والمنظمات القومية المتطرفة النيونازية في أوروبا والولايات المتحدة، أي الأحزاب التي تتطلع إلى إسرائيل الحالية لكي تقود الحرب ضد العرب وتقضي على آمالهم في الحرية والتقدم والتكامل الإقليمي حتى ولو كانت مجرد تقرير.
 * كاتب لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق