بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 أبريل 2014

بيروت بين مسرحين: الخشبة والحياة - زاهي وهبي

المتابع للحركة المسرحية في لبنان يلاحظ أنها تزداد نشاطاً وحيوية كلما اشتدت وطأة الحروب والأزمات في ظاهرة تبدو للوهلة الأولى مغايرة أو معاكسة لمنطق الأمور، لكن المدقق جيداً في أوضاع البلد والناس يستطيع إيجاد رابط غير خفي بين تلك الحيوية
الفنية والأوضاع الصعبة والاستثنائية التي يعيشها المجتمع اللبناني على الدوام حتى بات الاستثناء هو القاعدة، اذ قلما خلت فترة من الأزمات أقله على مدار أربعة عقود انصرمت، علماً أن ما كان قبلها لم يكن أحسن حالاً إلا قليلاً.

لو عدنا برهةً الى فترة الحرب المسماة أهلية لاكتشفنا أن جلَّ التجارب المسرحية المميزة كانت آنذاك، وفي المقدمة مسرح فرقة الحكواتي ومسرح زياد الرحباني ويعقوب الشدراوي وجلال خوري ولطيفة وانطوان ملتقى وشكيب خوري (والمسرح الاستعراضي الراقص مع كركلا ورفاقه) وسواهم من مسرحيين أثروا الخشبة اللبنانية والعربية بتجارب طالعة من صميم الواقع المأزوم، وفي هذه الوقائع أكثر من برهان على ارتباط المسرح بالمدينة وما تعيشه، اذ غالباً ما تبدو خشبة المسرح استمراراً لحلبة الحياة يستكمل فيها الصراع والجدل والنقاش على مستويات متعددة أولها الصراع الداخلي الذي يعيشه الكائن البشري في اللحظات الحرجة والأوقات الصعبة حين يغدو الموت قريباً جداً بل أقرب من حبل الوريد، وحين يمسي العقل الباطني في ذروة نشاطه المضني.

مَن منا لا يفكر أثناء الحروب والأزمات بالنهاية الموعودة، مَن منا لا يحلم بالخلاص، لا يُقبل على الحياة بشهية مفتوحة خشية الموت المتربص بنا كل حين وكل لحظة؟ صحيح أن الموت صنو الحياة ورفيقها الدائم في الحالات كلها، لكنّ ثمة فارقاً بين الموت العادي والموت الاستثنائي برصاصة أو شظية أو سيارة مفخخة أو صاروخ طائر، لذا تغدو الحياة أكثر فتنة وجاذبية في أوقات الحروب والقتال، ويزداد الاقبال عليها بنهم وشراهة خشية فقدانها في أي لحظة، وتتكثف مشاعر الحُبّ تماماً كما مشاعر الخوف فنصير أكثر حباً لمن نحبهم خوفاً من فقدانهم في أي لحظة، هنا لا تغيب الفنون عن هذا المشهد لا بل تتقدمه كأنْ نكتب لنتيقن أننا لا نزال على قيد الحياة، وبالفعل كم كتبنا ونشرنا من قصائد في زمن الحرب فقط لنقرأ أسماءنا في الصفحة الثقافية لا في صفحة الوفيات!
المسرح في طليعة الفنون التي تتفاعل مع ما يجري ويدور، اذ كما أسلفنا خشبة العرض جزء لا يتجزأ من منصة المدينة وما يدور هنا يستكمل هناك في علاقة متبادلة ومتناغمة، بل اننا في أحايين كثيرة نقول على الخشبة ما لا نقوله خارجها، لذا نلاحظ أن السلطة تخاف المسرح وتخشاه وتخضعه لرقابة متشددة لكنها تافهة، ولعل تفكك السلطة
أو وهنها في الأزمنة المحتدمة هو ما يساهم بخلق تلك الحيوية الابداعية حيث تمسي مساحة الحرية أكبر وسقفها أعلى، فضلاً عن حاجة الناس الى البحث عن متنفسات فيزداد إقبالهم على مشاهدة العروض المسرحية الجادة والجدية وهذا ما شاهدناه وخبرناه في الآونة الأخيرة في بيروت... وفي كل مدينة مأزومة.

حين يواجه الكائن البشري تحديات مصيرية وأسئلة وجودية كبرى لا تعود الفون الترفيهية والتجارية قادرة على الاجابة عن تساؤلاته وقلقه، لذا نلاحظ في مثل هذه اللحظات الحرجة التي نعيشها انحساراً ولو محدوداً في «الفنون» الاستهلاكية ونهوضاً أو نشاطاً للفنون العميقة التي تخاطب وعي الانسان وعقله طارحةً أمامه الأسئلة الكبرى التي يعيشها مساهمةً معه في البحث عن أجوبة شافية لا تكون متيسرة أغلب الأحيان لكن مجرد المحاولة تبعث على شيء من الرضى والاستكانة.

والحال أننا رغم الأزمات العاصفة التي نعيشها نفرح بالازدهار الابداعي الذي تعيشه المدينة وخصوصاً بالحركة المسرحية النشطة التي تملأ خشبات المسرح وتنادي الناس أن تعالوا الى حيث المتعة، تعالوا الى حيث النكهة الحقيقية للابداع الانساني في أرقى تجلياته وأقدمها: المسرح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق