بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 أبريل 2014

◘ البحث الصعب عن دبيّ - محمد علي فرحات

زرت دبي بعدما غبت عنها خمس سنوات. كدت لا أعرفها، فما بعد بناء برج خليفة يختلف عما قبله. مدينة كوسموبوليتية من نوع خاص، فلا هي نيويورك الغارقة في روح أميركية متعددة الينابيع، ولا هي روما ما قبل المسيح المستندة إلى المواطَنة الرومانية الجامعة شعوباً أوروبية وشرقية، ولا هي مكة المكرمة مدينة الأعراق الإسلامية
المتنوعة، خصوصاً منذ القرن الثامن عشر حين بدأ الحجاج الآتون من بلاد شرقية وغربية يستوطنون المدينة المقدسة التي يلتقي سكانها عند جامع الإسلام.

دبي لأهلها بالدرجة الأولى، لكن سكانها الذين يتوزعون على ما يزيد عن 120 جنسية طالت إقامتهم بحيث لا يمكن اعتبارها معسكر عمل من رتبة خمس نجوم.
مدينة الاكتشافات الأرضية، الاكتشافات المستقبلية، حيث يجتمع بشر في فندق كبير جداً تخترقه شوارع وساحات، في ما يشبه مبنى واسعاً للأمم المتحدة على شاطئ الخليج. يجتمعون ولا يدرون أن السنوات تمرّ وأن المكان ينسج ذكرياتهم، ليس فقط في مؤسسات العمل، ولكن أيضاً الحب والخيبة، واستحالة العولمة بقدر استحالة المراوحة عند الحس الوطني أو القومي. دبي المستقبل الذي لم ندركه ولم ندركها بعد. وأهل دبي وسكانها مدعوون إلى وعي بالمدينة يبدو إلى الآن صعباً، فلم نقرأ أو نشاهد في البحث عن هذا الوعي وتدوينه سوى أفلام مغامرات، ومن قبلها كتابات محمد المرّ القصصية عن تطور المدينة المبهر من ثقافة الغوص والرحلة في الصحراء إلى فتوحات التجارة ذات البعد الثقافي، بما ينقل مجتمع دبي من البساطة إلى التعقيد، إلى مزيد من التعقيد في مدينة يحاول الكثيرون وصفها فيعجزون.
في دبي التقيت لبنانياً على الشاطئ، كدت لا أعرفه، فقد تشكل في هيئة المدينة متجاوزاً صورته الأولى. لبناني هاجر متأبطاً شر وطنه، ثم تخلى عن الشر لينفتح على مهاجرين من أول العالم إلى آخره في رعاية الروح الإنسانية الوادعة.
فلنواصل محاولة وصف دبي والبحث عن تفاصيلها كمدينة للمستقبل. هل ننجح؟
> السبت 19/4/2014: صلاح فائق
الشعر ما يعطيك اللهب، ويستفزك لإحساس منافس، إحساسك المهمل في دخيلتك مثل كنز في تراب.

هذا الشعر قليل، ومنه قصائد صلاح فائق. لم ألتق شخصاً بهدوئه. نبتسم في المقهى اللندني أو نضحك أو نأسى أو نحزن حتى البكاء. وفي الحالات كلها الرجل إياه، تقرأ الانطباع، ولكن هادئاً، على بشرة وجهه. يتفاعل على طريقته، لكنه لا يغادر سمته: مراقبة هذا العالم وكائناته، كما في دهشة الرؤية الأولى.

كيف لهادئ مثل صلاح فائق أن يكتب شعراً؟ صلاح الذي قال مرة إنه يتخيل حروب العراق يراقبها كردي من فوق جدار عال، يدخن سيجارة بعد سيجارة بلا قهوة ولا شاي، على وقع الموت والحرائق.
من مجموعة صلاح فائق «ومضات» (منشورات الجمل - بيروت، بغداد) هذه المقاطع:
- تستعير أحلاماً من ضيوفك
فيزول ضجيج من رأسك، يسترخي حصان، تبتعد عناكب وعندليب يشفى.
- إنني رجلٌ فاشلٌ
في الماضي تلقيت أسرار نبع
لم أعرف ما أفعل بها
- أقول لها انت غيمة روحي
أنا نهر ظمآن، أنت مكتبتي
أنت من مجاهل الريح
تروضين وحشاً جالساً في رأسي.
أنا قليلٌ أمامك.
- تحت مقعدي فهدٌ يقرأ ما في جوازي
من أكاذيب
- كسوف الشمس يفرحني،

أرى أجنحتها الحمراء.
كلكامش واقفٌ قربي، يتفرج هو الآخر.
- كنت أسقط من شجرة بعد أخرى
وأنا أسرق فاكهة من هذه وتلك
كانت تعتذر بينما قرويون يطيرون حولي
هناك تعلمت حب الصلصال
إهداءه، في ما بعد، إلى خزافين.
- لست ذكياً. أجلس في مواجهة الشمس كل يومٍ ولساعات
لأن دمي بارد، وفي رأسي المربع دماغ أكثره ماء.
قصائدي جولات مع منشدين عميان
في جسدي مبيدات شركاتٍ ونفايات مدنٍ
أشعاري من قماش.
- خدعت شبابي بوعودٍ كثيرة
استقبلني شكسبير في مطار هيثرو
في الطريق إلى هامستد، حيث بيتي
ظلٌّ يشتم التلفزيون والصحف اليومية.
كان قاسياً
- رقصت في حفلات أصدقائي
ماتوا، واحداً بعد آخر
> الأحد 20/4/2014: أن لا نأتي
ليس من حفلة في البيت الكبير والموت يحرس البوابة.
أتكون الحفلة لمن يدخلون ويتحولون أشباحاً؟
أتكون حفلة للظلال حيث يمكن الصور أن تحضر، الرسوم أن تتحرك على وقع الدانوب الأزرق، كتب التاريخ أن تتزاحم في الرقص؟
ليس من حفلة في البيت الكبير.
والبيت ليس لنا، نحن المنذورون لفضاء الحقول، جوهرتنا.
الحقول سلامنا وفوقها غيوم الأحلام البيضاء، وأن لا نأتي إلى بيت كبير نجهله، محاولين إشغال الحارس وملء القاعات بحياة مرفوضة.
ليس لنا البيت ولسنا له، هناك أشباحه وحارس البوابة بالمرصاد.
> الإثنين 21/4/2014: البراءة ليلاً
النساء بأثوابهن الخفيفة اقتطعن مساحة من القاعة، أوقاتاً من الليل، قبسات من الأضواء الملونة، واستمعن إلى الموسيقى العالية وأغنيات الزمن الجميل.
المنتشيات بالإيقاع رقصن غير مباليات بالناظرين، رقصن حتى حلّ الرقص في الحضور بشراً وأشياء وزهراً لم يذبل بعد.
كانت طائرة تراقب وقمر اصطناعي يصوّر، وأن هذه البلاد لم يمت أهلها بعد.
ثمة نساء وأضواء ورقص وموسيقى وأغان.
ثمة براءة وفطرة خلقها الله في الكائنات، وفساد نبتعد عنه، نتركه لأهل الناحية المظلمة من بلادنا، لأولئك الذين يحكموننا ويراقبوننا ونرقص خفية عنهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق