بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 أبريل 2014

إسرائيل دولة إستيطان… وليست دولة وطن أبداً.. مطاع صفدي •

هل يمكن تصور بلاد العرب محكومة بالديمقراطية يوماً ما، في الوقت الذي يفخر الإستيطان الصهيوني، ليس بإقامة دولته فحسب، بل بتقدمها على كل دولة عربية، حتى يمكنه أخيراً أن يبتلع معظم الديار الفلسطينية؟
مع استمرار البؤرة الإسرائيلية محفورة في خاصرة المشرق، يصبح هذا التساؤل رغم
مشروعيته المطلقة، أقرب إلى الاستحالة القدرية، وليس السياسية فحسب. فلا عجب أن مختلف الثوريات الحزبية، والقُميّة الدولانية، والانقلابية العسكرية التي عصفت بالمشرق كله طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وامتد عصْفُها إلى الربع الأول الحالي من القرن الواحد والعشرين، هذه السلسلة من الانتفاضات وارتداداتها إلى النكسات، عجزت جميعها عن تحقيق أية حدود دنيا من مختلف الأهداف التقدمية التي جيَّشت شعوب المنطقة أعمق قواها المادية والإنسانية وراء آمالها؛ وكأنما هناك علاقة رياضية طردية بين ديمومة الكيان الإسرائيلي من جهة، وديمومة المتغيرات العبثية في العمق العربي المشرقي ماوراء هذا الكيان. هذا لا يعني أن إسرائيل قد حجزت المستقبل العربي تحت رقابتها المباشرة وغير المباشرة. لكن أية نظرة واقعية ونزيهة يمكنها أن تحدد بكل بساطة أن هذه العلاقة الطردية بين تمادي التجذر الجغرافي والسياسي لإسرائيل، وعبثية التطور العربي كمجتمعات ودول وأنظمة وثقافات، قد لا تكون نتاجاً لنوع من تاريخ صدفوي، أو مجرد تطور تلقائي تابع فحسب لنوعية مختلفة تماماً لكل من بنية الكيانيْـن العربي والإسرائيلي، وبالتالي لنوعية الأحداث والممارسة المجتمعية التي ميّزت الماضي والحاضر القريب لمسيرتهما العامة.

وقد يمكن المبادرة سريعاً إلى القول أن العلاقة الطردية هذه إنما هي في حقيقتها علاقة عكسية بين من يقوى، ومقابله هناك من يتخلّف ويتقهقر. لكن هذا اللاتوازي بين الطرفين لا يعني وجود رابطة علية بينهما. فلكل من إسرائيل والعرب له أسبابه الخاصة الفاعلة أولاً في متغيراته الذاتية، وإن تكن صيغة الصراع بينهما لها تأثيرها المستديم، لكنه ليس هو الوحيد بل ربما يغدو هو الحاسم الفاصل في النهاية. فلقد اعتاد العرب أن يعزوا أحوالهم المتردية إلى علل كثيرة ومتنوعة. فالسياسة بصورة عامة قد أنهكت مسيرة نهضة الاستقلال الوطني المعاصرة. وكان صراعها مع الكيان الصهيوني المجلوب، بمثابة المحور الرئيسي الذي لا تكاد تنعقد حول بعض رهاناته ‘أوهام’ الانتصار على تحدياته، حتى تتداعى بقية محاور النهضة تحت طائلة نتائجه السلبية في مختلف الوقائع الكبرى لمسيرتها العامة. 
سؤالنا في عجالة ‘الرأي’ الراهنة إن كان ثمة سرٌّ أو لغزٌ وراء هذا الفارق الهائل في جردة الحساب الحضاري بين المحصّـلتين العربية والاسرائيلية من كفاح الوجود واللاوجود بينهما، بل على الأقل من معايير القوة والضعف. فهنالك قوائم مطولة من عوامل الفروقات، وأسبابها ونتائجها تخص كل كينونة على حدة. ولسنا هنا لإعادة تكرارها، وقد بات يعرفها القاصي والداني. لكن يتجدد البحث عن أهمها بما له علاقة بالأوضاع الراهنة؛ فهل كان التقدم الإسرائيلي مرتبطاً دائماً بمدى الاستقرار السياسي داخلياً، الذي صاحب النشأة الصهيونية،هل استطاع استيطان المغتربين الوافدين، إنشاءُ نظامه السياسي الحاكم مترافقاً مع تنامي الوجودين: الديمقراطي والسكاني، وانعكاسهما على النمو الاجتماعي والاقتصادي؛ مما يلاحظه بعض الغرب متميزاً ومميزاً لتجربة الإستيطان أن هناك نوعاً من ديمقراطية تلقائية، وشعبوية سبقت الديمقراطية السياسية. فمن تنظيم عمليات الهجرة والاستيطان التي أدارتها عقلية غربية متقدمة أصلاً، صار يمكن البناءُ عليها دستورياً وحقوقياً في شكل دولة ذات أصول شعبية وعقائدية معاً. هذه النظرة لأركيولوجيا مؤسسة السلطة، قد تكفّلت بتوفير تراتبية موضوعية ساعدت عملياً على تثبيت باقة من الروابط الأهلية، إن صح التعبير بين الحكام والمحكومين، بحيث يجيء بناء الدولة والمجتمع كجناحين لعملية سياسية واحدة.هذا ما يجعل إسرائيل تبدو كأنها حزب عقائدي كبير. جامع بين قياداته وقواعده ضمن انتظام واسع فضفاض لكنه متكامل الوظائف والأدوار ما بين مكوناته كلها. وفي هذا السياق كان للدين اليهودي دور أحادي في السيطرة الجمعية والفردية، كان هو الإيديولوجيا التحزبية المؤسِّسة لمبادئ الثقافة العامة. 
ومع أن الدولة اتخذت لذاتها هياكل المؤسسة الدستورية العالمية، فلا يمكن القول أن هذه الدولة تمارس نظام الديمقراطية المتعارف عليه كما في الدول العلمانية الأوروبية. ومع ذلك فقد توفرت هوامش كثيرة وعريضة للحريات الفردية، ما سمح بتعددية التيارات وتجمعاتها المتناوبة على مقاعد السلطة. فإن مبدأ تداول الحكم ظلّ مرعيَّ الجانب، ولم تجد أية هيئة سياسية نفسها مضطرة لانتهاج أساليب الثورات أو الانقلابات الفوقية. طيلة منعطفات الأحوال العامة استمرّت صناديق الاقتراع الدورية هي الحاكمة، لأنها هي وحدها المعبرة عن خيارات الأغلبيات العظمى للناس لكن المشكلة الأدهى التي تصطدم بها طلائع الأجيال الجديدة هو أن علمانية الحياة اليومية العصرية لم تعد متطابقة مع شروط علمانية الدولة، المقننة سلفاً بالإيديولوجيا الدينية عامة، وتوجبات المشروع الصهيوني خاصة. 
إذا لم يكن تاريخ إسرائيل ذاتياً، ملطخاً بدماء الثورة والانقلابات فذلك لأنها كانت في أصلها، ولا تزال دولة استيطان مجهزة لشن الحروب على شعبفلسطين وجيرانها في وقت واحد: ديمقراطيتها ليست مسوّغة بإقامة المجتمع الحر، بل المجتمع المقاتل. نموذجها الأغريقي القديم هي مدينة إسبارطة، قلعة المحاربين المتوحشين، وليست أثينا وأكاديمية أفلاطون وأرسطو، لعلّ إسرائيل هي الدولة الوحيدة في عالم اليوم التي يعتقد عقلها الباطن أنها لن تكون إلا دولة استيطان طارئ، ولن تكون أبداً دولة لوطن دائم. هذا ما يجعل مجتمعها في حالة من العجلة في مختلف أموره. محتاج إلى إنتاج كل مظاهر التمدْيُن والحداثة والعمران. ليبرهن لنفسه أولاً أنه بات متجذراً في الارض السليبة. هذا التقدم الإسرائيلي ‘الباهر’ هو أيديولوجي، أسطوري، مشتق في أصله من المشروع الصهيوني المؤسطِر لثقافة الإستيطان، ومحركه الأول نوع من وجدان جماعي تراجيدي مسكون بالخوف من عجز المشروع الصهيوني يوما ما عن قلب مسوغات دولة الإستيطان من طابعها السياسي والاستراتيجي الظرفي – الدولي إلى علل تأصيلية لوجود كيان قارٍّ ومستديم، متمتعاً بأسبابه الخاصة في ذاته. فقد يمكن للإستيطان أن يحقق صيغاً متنوعة من التقدم المكثف المتسابق مع نفسه، لأنه ليس ضامناً مسبقاً لما قد تأتي به متغيرات الأزمان والأحوال. وقد يحقق هذا التقدم درجاتٍ عالية في التفوق على أصحاب الوطن السليب، الأصليين، ومعهم سلالتهم الكبرى اللامتناهية من العرب ومسلمي العالم. فهؤلاء جميعاً يتمتعون بكل خصائص الإنبناء الطبيعي لأوطانهم، وإن تفاوتوا حتى اليوم في مستويات تخلفهم وتقاعسهم عن تلبية حاجات المواطنة معطوفة على الحداثة المعاصرة. 
السؤال إذن عما يجعل دويلة المشروع الصهيوني سابقة في تطورها، كماً ونوعاً، على أحوال خصومها من دول العرب، لن يكون جوابه السريع مختصراً في الكليشة الشائعة، وهو أن تجربة الإستيطان القومي أو الدين الأيديولوجي كانت أقدر على اختيار الديمقراطية نظاماً سياسياً وحقوقياً لمجتمعها، بينما فشلت ‘النهضة العربية’ إجمالاً في ابتكار أنظمة الحريات لشعوبها رغم طفراتها الدولانية والاجتماعية والعسكرية الحادة عبر نصف قرن أو أكثر. فما لا ريب فيه هو أن إسرائيل صناعة غربية خالصة، في حين أنه امتنع على العرب أن ينجحوا، أن يكونوا صناعاً أحراراً لنهضتهم؛ فـ ‘النجاح’ الإسرائيلي ليس تميزاً أو امتيازاً لمشروعهم الصهيوني، بل هو من أفضال الغرب على من تبقّى من يهود أوروبا بعد ‘المحرقة النازية’ فهي أفضالٌ بمثابة ‘التعويضات بحسب الاصطلاح الدبلوماسي، لم يدفعها الغرب إلى أحفاد الضحايا من جيبه، بل من لحم وعظم الإنسان الفلسطيني والعربي، ومن كنوز أرضه الطيبة. 
إسرائيل هي دولة استيطان، ولن تكون أبداً دولةَ وطن. والديمقراطية هنا هي نظام تَعْبئةٍ سكانية عسكرية بلغة مدنية، مرتهنة للمشروع الصهيوني؛ لا تنطق ألسنتها بأسماء الحريات إلا كطريقة ذكية للتغطية على مسمياتها العائدة في أصلها إلى الدين، كإيديولوجيا، ليست للعبادة بقدر ما هي محرِّضة ومسوِّغة لتجييش العنف باعتباره الوسيلة المثلى لتبني أساطير الإستيطان، بديلاً عن تربية المواطنة المشروعة إنسانياً وحقوقياً.
إذا كانت إسرائيل تستخدم الديمقراطية السياسية قناعاً مدنياً لبنيتها العسكرية، فإن العرب لم يعرفوا بعد، سوى أنظمة القمع الحاجبة لقوى مجتمعاتهم وراء مصالح فئويات الأمر الواقع المتسلطة استبدادياً وفساداً. هذا هو الفارق الجذري بين دول لها أوطانها العريقة المشروعة، لكنها محرومة من إرادة الحرية المستقلة الصانعة لسيادتها وتقدمها، وبين دولة إستيطان معتمدة كلياً على نوع آخر من إرادة القوة، مستمدة من إرادة صانعي وطنها المستعار والمسلوب، وهذه هي أحوال متغيرة من طبيعة السياسة الدولية التي أنشأتها. فالمشروعية واللامشروعية ليستا مصطلحين عابرين، إنهما معاً يميزان الصح من الخطأ، بين الحقيقي والمصطنع. إنهما الثابتان فيما كل ما عداهما متغير ومتحول.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق