بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 24 يونيو 2014

◘ كيف تهرب من الثورة؟ سعاد قطناني

 حين قامت الثورة في سورية لم يكن مخططا لها، ولم تكن محسوبة بحساب الربح والخسارة، ولم تُحدد لها ساعة الصفر من قبل قادة أو أحزاب، بل كانت كانفجار البركان وفيضان النهر، كانت كأي ظاهرة طبيعية يصعب السيطرة
عليها أو لجمها، كانت ردة فعل على عمر من القمع والإهانة، تحمل في عمقها مطالب الحرية والعدالة والكرامة، تحمل غضب الريح من تناثر الزيوان فوق القمح وعقم الأرض، كانت كشهقة في الهواء، تحمل شفافية الحلم لتغيير أزلية الظلم والوصول إلى عدل القمح ونزاهة الينابيع وحق الهواء، فارتفعت الأيادي وبُحت الحناجر وعلت الرايات تنادي بوطن يتسع لحلم الجميع. ومنذ انطلاق الثورة لم ينقسم المجتـــمع بين معــــارض وموال فقط، بل وقــــف الكثير موقفاً مائعاً وهلامياً، بينهم «مثقفون» معارضون للنظام سابقاً، منهم يساريون ومنهم من يصنف نفسه تحت خانة «إسلامي معتدل»، بالإضافة إلى شريحة واسعة ممن لا يريدون دفع أي ثمن للتغيير. 
وإذا نظرنا للمبررات التي يسوقها الموالون أو المعارضون للثورة، فكل منهم يحمل سنداً واضحاً لوقوفه مع هذا الطرف أو ذاك، اعتماداً على المصالح أو العقيدة أو الإيديولوجية التي يؤمنون بها، أما ما يسوقه هؤلاء «الهلاميون» من مبررات فاتخذ أشكالاً وصيغا مختلفة، حسب بنية كل شريحة منهم، ولكنهم على اختلاف مشاربهم نحتوا مصطلح « العقلاء» ليختبئوا وراء شروحاته للهروب من الثورة، وليكونوا بمنأى عن المشاركة فيها. وإذ ربطهم ذلك المصطلح بالعام فإنهم يتمايزون بطريقة تقديم أنفسهم كل حسب خلفيته الفكرية ومنبته وطريقة رؤيته.
وإذا دققنا النظر في طرق الهروب من الثورة لدى «المثقفين» ذوي الخلفيات الفكرية اليسارية، فكان التوجه للأدب والغرق في الثقافة والتثاقف، والبحث عن مواضيع أبعد ما تكون عن الواقع، وإشباعها تحليلاً وغرقاً في المصطلحات، كالبحث عن جماليات المعنى المختبئ وراء الأحرف في اللغة، وانسكاب المعنى في الأسطورة، كوسيلة للتخلص من مسؤولياتهم تجاه ما يحدث. فمنهم من يعيش في بعض المدن السورية التي لم يطالها الخراب، ويتعامل مع معطيات الحياة وكأنها تسير بإيقاعها الطبيعي، فيشارك في المعارض الفنية تحت مسميات شاعرية، ويلقي المحاضرات والندوات الثقافية عن الخط العربي وموسيقى اللحظة والنقد الأدبي للمكان وشاعرية الفراغ. والتقاطهم للصور التذكارية على خلفية الألوان المبهجة، تؤكد سريالية المشهد حين تترافق مع صور الدمار والخراب في المدن السورية الأخرى. وإذا دفعك حظك العاثر، لنقاش أحدهم ومواجهته بموقفه السلبي تجاه ما يحدث على مساحة الوطن، فإنه يفرد في وجهك ملفاً طويلاً من الماضي النضالي، وربما يعدّ السنوات التي أمضاها في سجون النظام ليخرسك ويسد عليك كل منافذ النقاش.
واستعراض بسيط لما يبثه هؤلاء «العقلاء» على شبكات التواصل الاجتماعي من تغن وغزل بدمشق الياسمين، والحنين إلى الماضي، والانغماس في الذاكرة عن الحب في شوارع دمشق القديمة، ورومانسية مقاهيها بدون أن يشموا رائحة الدخان الذي يزكم الأنوف حولهم، وبدون التطرق لكيفية الحفاظ على سورية المستقبل، وبدون أن يتساءلوا: من هدم سورية الحاضر ومن نشر الغبار على أرصفة العشق وغطى شرفات الياسمين برائحة الموت، هو وسيلة أخرى للهروب من الثورة وعدم رؤية الركام المعلق في الهواء، والتشبث بياسمينة شاحبة تكاد أن تموت!
ولم يكن تجاهل يوميات القتل والتدمير هو أحد وسائل الهروب والإنكار للثورة فقط، ولكن مناقشة الثورة على أرضية أنها الائتلاف وممثلوه والتشوهات التي رافقت هذا التشكيل وفساد هيكليته وتضخيم أخطاء بعض رموزه، ومقارنتها مع الفساد في النظام، ما هو إلا مبرر يعتمده هؤلاء لهذا الهروب، مدعوماً بالمغالاة في ذم طرفي الصراع ووضعهما بنفس السلة. أما البعض الآخر، فيبرر هروبه بأن الطابع المسلح سيقود بالضرورة إلى حرب طائفية، وبالتالي هم ضد الثورة التي تقسم سورية طائفياً، متناسين أن النظام هو من أجبر السوريين على حمل السلاح، وهو من يحاول جر الثورة نحو الطائفية. ولا تعوز هؤلاء الوسيلة للاتكاء على مفهوم الدولة وعلاقته بوحدة المجتمع للهروب من استحقاقات الثورة، حيث يعزون ما حصل ويحصل من تدمير للدولة وبنيتها للثورة، وهنا يرتفع شعار الحفاظ على بنية الدولة، وكأن الدولة في أنظمة كهذه منفصلة عن بنية النظام، في فهم خاطئ لدى هؤلاء لطبيعة هذه الأنظمة، ودور الدولة فيها كأداة لتكريس سلطة الأمن والمخابرات فوق جماجم الشعب.
أما الشعار الأكثر سطوعاً كوسيلة لهروب «الهلاميين» من الثورة هو شعار الممانعة، مستـــندين الى سياسة أمريكا والغرب عموماً وتاريخهم المناهض للقضية الفلسطينية والقضايا العربيــــة، وأن من تقف ضده أمريكا أو أي دولة غربية لا يمكن إلا أن يكون في أسوأ الأحوال «ديكتاتورا وطنياً»، ويفسرون المساس به على أنه «مؤامرة كونية» على سورية، متناسين دور أمريكا والغرب عموماً في الحفاظ على هذا النظام، لما شكله ويشكله من ضمان لمصالحهم ومصالح إسرائيل في المنطقة.
أما «العدميون» المهزومون من المعركة قبل دخولها، فإنهم يحاولون إثبات أن كل شيء مخطط له عالمياً، وهم حجر شطرنج صغير في هذا النظام الكوني الذي لا يملكون أدنى تأثير عليه، والوقوف جانباً بانتظار ما يمكن أن يحدث هو أفضل طريقة، بالنسبة لهم، للتخلص من عبء الموقف، والمسؤولية تجاه وطن يحترق وشعب يُقتل ويُهجر. وهناك من تستر على صمته وهروبه من الثورة بطريقة مواربة توحي بالنزاهة حين طالب باستقلالية القرار، وعدم القبول بالتدخل الخارجي، واعتبار كل من ساعد الثورة رجعيا، وبالتالي فإن مسار الثورة المدعوم من دول لا تعتمد الديمقراطية، بالضروة، هو مسار فاشل، ففاقد الشيء لا يعطيه. وهذا الكلام حق يراد به باطل، حين يتم الصمت على دخول الإيرانيين وميليشيات حزب الله وكتائب العباس وغيرها من قوى طائفية إلى سورية، والصمت على ارتهان النظام وخضوعه لإملاءات ومصالح الروس والإيرانيين في رسم ملامح المعركة، معركة نظام ضد شعبه. 
وإن كانت داعش وجبهة النصرة وغيرهما من الجماعات التكفيرية التي هي من صنع النظام بشكل مباشر أو غير مباشر، سبباً وركيزة مهمة لإيجاد المبررات بالنسبة «للعلمانيين» للهروب من الثورة، بالاستناد الى رؤية تلك الجماعات الظلامية، والتغيير المتخلف الذي تنشده، فإن هذه الجماعات كانت أيضاً سبباً للهروب من الثورة بالنسبة للمتدينين «المعتدلين»، لأن الوقوف إلى جانب الثورة، في هذه الحالة، يعني التصالح مع هذه القوى المتشددة، لذلك نأوا بأنفسهم عن الثورة والثوار، إلا من زاوية أضعف الإيمان «فبقلبك»، فانغمسوا بتفاصيل التفاصيل لتعاليم الدين، ابتداء من حكمة الدخول بالقدم اليمنى، وليس انتهاء بمظاهر الحسد والحاسدين، كبديل تعويضي للهروب من استحقاقات الثورة. 
ومن أهم الفئات التي وجدت مبررات للهروب من الثورة، هي الفئة «المدجنة»، التي تم قتل طموحاتها وتطلعاتها عبر تاريخ طويل من الاستبداد، وهي فئة غير قليلة، تلتفت إلى الاهتمام باليوميات، والخاص جداً على حساب العام والوطني، وتنسحب من المشاركة أو المساهمة في تشكيل المستقبل، وهذه الفئة تريد التغيير وتحسين ظرفها الحياتي على المستوى الشخصي، وترى أن على غيرها أن يدفع الثمن، وبالتالي تحصل على الميزات بدون التضحية بالقليل الذي تملكه في ظل النظام الديكتاتوري. وأهم ما يميز هذه الفئة الرهاب من السلطة والمخابرات، والخوف من كل شيء، وهذه الفئة تعيش وفق المثل القائل:»الحيط الحيط ويا رب الستر»، فتركض وراء لقمة العيش وتنحني للريح أنّى هبت، مما يعكس مزاجاً عاماً لديها في عدم التدخل في الحياة السياسية، بل تقف إلى جانب سلطة الخوف، مجللة خوفها بمبررات أولوية الأمن والأمان.
أما على المستوى العربي، فنجد بعض «المثقفين» الذين لم يكفوا يوماً عن نقد الديكتاتوريات والتغني بالحرية والديمقراطية، يتجهون اليوم إلى الكتابة، حصراً، عن القضايا الفكرية المجردة، والخوض في التمايز بين النظريات، ومناهج التفكير الأوروبية، وينساقون بأفكارهم إلى التعمق بالمصطلحات والمفاهيم الفلسفية المجردة والخوض في مواضيع أبعد ما تكون عن الواقع المعاش في لحظـــة فارقة من تاريخ العرب، في حين كان يمكن أن يستفيدوا من كل تلك المفاهيم لتفكيك ومحاولة تحليل تشابكات الواقع المحيط في ظل اشتعال الثورات العربية. إن وجود هذه الفئات وهروبها من استحقاقات الثورة، مهما كانت مبرراتها، كان له الأثر الكبير في تطور الصراع وتشابك المسارات، فقد أعطى هذا الموقف الفرصة للقوى الخارجية والإسلامية المتشددة أن تأخذ دور القيادة في هذه الثــــورة، وتشـــوه مســـارها وأهدافها، وبالتالي أدت إلى إطالة عمر الثورة ورفع فاتورة التضحيات، وإعطاء النظام الفرصة كي ينقض ويستفرد بالمعارضة الحقيقية على اختلاف مشاربها، محاولاً أن ينزع صفة المشروعية عنها، في الوقت الذي كان على تلك الفئات أن تدرك أنه عليها نقد الثورة من باب الحفاظ على مبادئها وأهدافهــا، والبحث عن السبل اللازمة لتصحيح مسارها كي تكون قادرة على إنجاز مهمة إسقاط النظام وتحقيق الحرية والكرامة والديمقراطية المنشودة.

٭ كاتبة فلسطينية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق