بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 يونيو 2014

ثورة وطنية تستبق وكالة إقليمية للإمبراطورية الآفلة مطاع صفدي

ماذا يعني فتح جبهة العراق من جديد، لماذا ولحساب من؟ هل هي الفخ المنصوب لبعض القوى الكبرى في المنطقة، وتحديداً هل هي إيران التي تغدو، قسراً عنها، موعودة بالإنجذاب الطوعي أو القهري إلى هاوياته. ولكن قبل أن تستخدم كوارث العراق كأفخاخ لغيره، فإنه هو المقصود
أولاً ومركزياً، وهو المفجوع النموذجي بأكلاف تلك الكوارث قبل سواه. وها هو اليوم يواجه الأعتى من مسلسل أهواله المتلاحقة. كأن هذا البلد العظيم محكوم عليه أن يكون حقلَ تجاربَ لأصنافِ الحروب التقليدية منها والمبتكرة. حتى عندما ينجح، نادراً بإنتاج متغيرات وطنية وشعبية على شكل انتفاضات جماعية أو ثورات سياسية، فلا بد أن يقترن التغييُر أو الثورة بأهوال دموية رهيبة تجرّعليه حرباً أو حروباً متنوعة غير مسبوقة في أمثالها. فلا حاجة إلى إعادة الذاكرة نحو أحداث العقود الثلاثة المنقضية لتثبت هذه النظريةُ: لكن البركان المتفجر راهنياً لن يكون خاتمة لأهوال المرحلة التي سبقته بقدر ما سيكون محصلة واقعية جداً لكل نتائجها المعروفة أو المحجوبة حتى الآن.

هذه الجبهة لن تقل خطورة عن جبهة المهالك المستدامة المفتوحة فيسوريا، إن لم تَفُقْها اليوم وغداً، بكل الفظائع المتكررة هناك، وما سوف يتجاوزها بالكم والنوع في بلاد الرافدين. لكن التشابه بين الجبهتين لن يتبقى محصوراً في دائرة الأحداث الدموية الكبرى. فالجبهة السورية فتحت جحيمها منذ ستة وثلاثين شهراً، ولن تُعرف لها نهاية. كذلك من المتوقع أن تفتقر جبهة العراق إلى أية خاتمة قريبة، أو معروفة الملامح الرئيسية على الأقل. فالمشرق العربي فارق استقراره القديم المشبوه، ولن يستردّ مثيلاً له في مستقبل معلوم أو موعود.
أوباما يتابع في العراق السيناريو عينه الذي استخدمه ولا يزال إزاء المهالك السورية، إنه سيناريو الأقوال الدولية التي تتناقض ما بين نصوصها المعلنة قبل أن تتناقض مع أفعالها على الأرض. فالرئيس الأمريكي لا يتدخل في الحروب الأهلية، ولكنه يترك الآخرين، من أهليّين وأغراب أن يتدخلوا. أوباما لا يحب أن يتذكر أبداً أنه هو القائد الأعلى لجيوش الدولة الأعظم في العالم. إنه يفضل أن يمارس مهنته الأصلية كأستاذ العلوم الدبلوماسية، أكثر منه كرئيس أو كقائد عسكري. إنه يعتقد بالحكمة الفلسفية اليونانية القائلة ما معناه أن السياسة هي فن الخطابة. والمقصود بالخطابة ليس الصراخ العالي بالألفاظ الطنانة الرنانة، لكنها هي فن عقلنة الكلام بما يقنع مجتمع العاقلين قبل سواهم؛ ولقد قيل عن السبب الأصلي لشهرة أوباما أنه كان خطيباً مُفـوّهاً. بيد أنه عندما أصبح رئيس الإمبراطورية العظمى الهرمة والعازمة على الاستقالة من أدوارها العالمية، لم يعد يخطب في جمهور من العقلاء فحسب، بل بات ملزماً بمحاورة جماهير مختلطة من كل نوع وجنس. ههنا تنتهي وظيفة الخطابة، وتحل محلها ضرورات الأفعال العامة وحدها. إلا أن الرجل لا يحب هذا الضرب من الممارسات غير اللائقة بأساتذة الكلام المنمق.وقد يفضّل الرسائل الصامتة المشفّرة. يبعثها إلى عملائه في كل مكان.
أوباما عاصر دون أن يختار، حَقَبَةَ التحولات الجديدة والمجهولة العاصفة ضمنياً تحت الخرائط الجيوسياسية المهترئة لعالم الأمس المستديم إلى اليوم، وإن أمسى خارج صيرورته القديمة. وقد داهمته ثورات العرب التي فهمها بعض الفكر الغربي، واعتبرها بعض رموزه، أنها تحمل إنذارات العالم الجديد، حيثما سيحل أفول أنظمة الدول، كبيرها وصغيرها، ويبزغ فوق أطلالها عصر آخر. يخص مدنيات المجتمعات المعروفة والمجهولة من البشرية الراهنة والمنسية معاً. 
أوباما يجد نفسه مسؤولاً شاء أم أبى عن هذه الثورات ومصائرها.لا يعني هذا أنه هو قائدها، بل هو من بيده بقاؤها، أو إحباطُها. لكنه لم يفعل هذا أو ذاك. بل اختار الأسلوب الثالث الموسوم بالشُبهات وأشباه المؤامرات، فهو يُبقي على الثورة حتى تغرق في أخطائها، وتستنفذ قواها في إنتاج نقائضها، ومن ثم تتورط في الصراع العبثي مع تشكلاتها. ذلك أن أوباما يدرك تماماً أن دولته أمريكا لا تطيق النطق باسم الثورة، وأن تقاليد إمبراطوريتها إنما تأسست على مبدأ السلطة الكاملة للنخب المتسلطة في المجتمعات الدائرة في فلكها، وأن النخبة هي المحتكرة لأسباب القوة المادية أولاً والمعنوية كديكور ثانوي.. لن تمد أمريكا يدها إلى أية ثورة قبل أن تكون على ثقة كاملة أنها قادرة على التحكم بإرادتها. بدلاً من تصاعد حراك الثورة نحو أهدافها المشروعة، سرعان ما تنقلب بوصلتها على نفسها، تفقد وحدتها الطبيعية لتغرق فروعها في صِيَغ من «أحلاف الضرورة» مع طوائف من خصومها الأصليين، ومن أصناف أخرى من الخصوم الطارئين، ومن البعض المنبتّ من تربة الثورة عينها. فما حدث وسوف يحدث لقصة الثورة العراقية الأخيرة لن يكون مختلفاً عن قصص ثوراته السابقة، إلا إذا ما عملت على إعادة تحصين كيانها بعد كل معركة تخوضها ضد عهد الفساد والفئوية المظلمة. فالأجواء حولها عامرة بالقوى الفوضوية المتناسلة من بعضها. وعوامل التشويه لن يكون مصطلح الإرهاب كافياً وحده للتعبير عنها، ولقد كادت ثورة العراق أن تفقد اسمها الوطني والإجتماعي لتوصم بالإرهاب الداعشي.. وبعد أن بدا أنها اضطرت إلى عقد تحالف «الضرورة» البائسة معه، وإن إلى حين ما.
إغراق الثورات في مستنقعات الدماء، ذلك هو رهان أعداء كل الانتفاضات الجذرية الجارية في عمق التاريخ كما في زمانه الراهن. فالإرهاب هو من سلالة العنف الذي لا بد لكل ثورة من أن تمارس أصولاً ودرجات مختلفة من قاموسه. ماذا يفعل الثوار إزاء مظالم المستبدين بأوطانهم وحرياتهم إن لم يردوا على القتلة بما يقتلهم قبل أن يجهزوا على آمال الجماهير وشعبها. هذه الجدلية لن تكون تسويغاً إيديولوجياً للعنف. لكنها أتاحت لمتغيرات التاريخ الحاسمة التوجه نحو التقدم العام، وقد زودتّه بأرضية الواقع الفعلي الذي لولاه لما قامت لمبادئ الحريات مؤسساتُها المعترف بها أخلاقياً وليس سياسياً فحسب.
هل أمريكا مرتبكة حقاً كارتباك تصاريح رئيسها الذي يريد أن يقاتل و لا يقاتل، أن يتدخل ولا يتدخل، أن يحمي حلفاءه المحليين وأعداءهم في الوقت نفسه. غير أنه في الحساب الأخير، حسب الإستراتيجيات الشمولية للغرب ولأمريكا خاصة، فإن النيران قد اندلعت في بلاد الرافدين ويجب أن تحرق أخضره ويابسه قبل أن يعاد بناؤه كأوطان متناحرة فيما بينها، على كل شيء: الحدود، الثروات، الأعلام والثقافات، حتى على اللغات والتاريخ والمستقبل. إنها الخارطة الإجتماعية السرية والعلنية التي تشتغل على تنفيذ فصولها أدبيات الاستراتيجية الأمريكية منذ عقود كثيرة. فالمشرق هذا، بل عالم العرب ينبغي ألا يبقى عربياً أو إسلامياً. إنه لن يتاح له أبداً إنجاز عوامله الضرورية لاستقلاله ووحدته. إنه المعروض للبيع وللمقايضة في نخاسة الصفقات الدبلوماسية العليا. فالجديد في هذا السياق الدولي العريق هو أن أمريكا أمست باحثة فعلاً وواقعاً عن الوكيل الأقوى إقليمياً، بعد أن يئست من مستقبل الصهيونية في أرض العرب. لكنها لن تكون مطمئنة أن هذه الوكالة المستحدثة سوف تحافظ على تقاليدها السائدة في علاقاتها مع أقطاب المنطقة منذ عقود عديدة. 
من هنا يتعاظم ارتباك أستاذ العلوم الدبلوماسية القابع في البيت الأبيض. لن يحسم قراره أولاً ما بين الوكيل القديم الإسرائيلي، والوكيل المرشح الجديد الإقليمي (إيران؟). ولن يفصل سريعاً كذلك في صلاحة هذا المرشح للمهمات شبه المستحيلة التي تنتظره. وأهمها، دون أن يصرح بها صاحب مشروع التصفية الإمبراطورية، هي هذه الحقيقة الملتبسة بنقائضها المتجددة من حدث كبير إلى آخر؛ فقد يمكن للإمبراطورية تزوير الثورات أو تشويهها أو إحباطها. لكن ثورات الربيع العربي لن يستطيع أحد آن يمنع اندلاعها، فكل وكالة إقليمية جديدة عليها، لن تخسر صفقاتها فحسب، بل ستخسر نفسها كذلك مع بضاعتها الرديئة. هذه النتيجة ليست نبوءةً طارئة، لكنها حكمة عريقة، يعرفها أوباما (الإستاذ) ولا يمكن أن يتجاهلها طويلاً. هل نعذره إذاً لارتباكه المستدام..!

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق