بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 يونيو 2014

المدني والعسكريّ في رئاسيات «القطرين» وسام سعادة

الإغراءات كثيرة لإطلاق حُكْمٍ واحد على كلّ من الرئاسيات المصريّة وتلك السوريّة، والإنصراف من ثمّ إلى نوبات حادّة من التشاؤم، من النوع الذي يتبع نوبات التمادي في التفاؤل الفاقد لشروطه. لأجل ذلك فإنّ «تمييز» الرئاسيات المصرية عن تلك السوريّة يستفاد منه ترشيداً للعلاقة بين حسابات التفاؤل والتشاؤم، فلا نعود نتنقل بينهما بشكل تقاذفيّ، هستيريّ، لا يرى غير أحداث مقطوعة عن السياقات والمسارات والبنى، ولا يرى من الأحداث غير صورها، ومن الصوَر غير ألوانها، بل أحد اللونين، الأبيض أو الأسود. 
الاختلاف الأوّل بين الرئاسيات المصرية وتلك السوريّة أن عبد الفتاح السيسي «عسكريّ» وبشّار الأسد «مدنيّ». الأوّل تدرّج في هرمية عسكرية والثاني هبط عليها بوراثة المنصب عن «العسكري» الذي كانه والده. صحيح أن النظام الذي ورثه بشّار الأسد هو نظام تسيطر على مفاتيحه الأساسية ثلّة من كبار الضبّاط الذي يرتبط الركن الأساسي منهم برابطة طائفية ومناطقية وحزبية في الوقت نفسه.
في الحالة المصرية، لم يكن للجيش أن يقبل وراثة جمال مبارك للرئاسة عن والده العسكري. أما في الحالة السوريّة، فإن الطبيعة المركبّة للطغمة العسكرية الحاكمة، من حيث ترتكز الى روابط طائفية ومناطقية وحزبية في الوقت نفسه، جاءت متلائمة مع خيار التوريث البيولوجي، بل أن التوريث أوّل ما حدث في سوريا فقد عنى وراثة بشار الأسد لـ»الجيش العربي السوريّ» نفسه، وقبل وفاة والده. طبعاً، سيستفيد بشّار الأسد من صفته الطبية، والمدنية، تلك، لإيهام الكثيرين، على أنّه يختلف عن نظامه، وبأنّه أفضل من نظامه، في حين أن جمال مبارك بدا، بإجماع المصريين قبل الثورة على نظام والده، أسوأ ما في ذلك النظام. 
وطبعاً، ليست هذه المرّة الأولى عربياً التي يجتمع فيها الطغيان الدموي والنظام العسكري مع ديكتاتور مدنيّ، فقبل بشّار الأسد خبرنا هذه الحالة، ولو بشروط مختلفة، مع صدّام حسين، الذي كان هو أيضاً، وفقاً لثنائية «مدنيين وعسكريين»، مدنيّاً. 
يبقى أنّنا، وفي الحالتين المصرية والسورية، أمام نظامين متمركزين حول العسكر، ويطرح فيهما العسكر كيفية إعادة إنتاج هذا التمركز، وهذه السيطرة، فيكون المؤدّى أن فئوية النظام السوري الطائفية، وبعثيته الأيديولوجية تتلاءم مع خيار التوريث، في حين أن الأنظمة الجمهورية العربية الأخرى استبدّت بها شهوة التوريث بعد نجاحه سورياً، فكانت نتيجة ذلك ترنّحها. 
لكن ثنائية «مدنيين وعسكريين» هذه تختلف في حالة «المجتمعات العسكرية» (والوصف مستل من عنوان كتاب مرجعيّ لأنور عبد الملك، «مصر مجتمعاً عسكرياً») عن غيرها من المجتمعات. فما حصل في مصر، عشية الإطاحة بالرئيس الفائز بأول – وآخر ؟ – انتخابات رئاسية تنافسية بالاقتراع العام تحدث في بلد عربي، الدكتور محمد مرسي، هو أن المعارضين لـ»حكم الأخوان» صنفوا الجماعة كخارجة عن «المدنية»، وكخارجة عن ثنائية «عسكر ومدنيين» في الوقت نفسه. وهذا الإخراج لـ»الإخوان» من صفة «المدنيّة» عاد وأمّن دفعاً حيويّاً للصعود البونابرتي، وفرض معادلة انتخابات تنافسية شكلاً، ومحسومة النتائج سلفاً، ينتصر فيها «العسكري» عبد الفتاح السيسي على «المدني» حمدين صبّاحي، بفارق شاسع، يكاد يحاكي النسبة المقلوبة بين المدنيين والعسكريين داخل المجتمع، هذا دون نسيان الأصوات الملغاة التي فاقت أصوات صبّاحي نفسه. في مصر، تلكأ الناخبون أيّاماً، ثم اقترعت نسبة منهم لخيار بونابرتي، بكل ما يطرحه مثل هذا الخيار من تحدّيات على نفسه: فبخلاف الحالة السوريّة، يمكن للسيسي أن يطرح نفسه كرئيس «فوق الصراع الأهلي» بين فلول نظام مبارك وبين شعب ثورة 25 يناير، وبدل استناده الى ثورة شعبية واحدة، يجعلها ثورتين، أما بشّار الأسد فإن الصراع الأهلي يدور حوله، وليس فقط حول نظامه على وجه التجريد والإطلاق. وفي المقابل، ليس الجيش المصري «ملك والده» لعبد الفتاح السيسي، ونجاحه في الرئاسة رهن باجادة نوعين من التوازنات: واحدة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وثانية ضمن المؤسسات الدستورية. لا يمكن للسيسي أن يحول دون ظهور استقطابات قيادية جد يدة في رئاسة الأركان المصرية بكبسة زرّ، ولا يمكنه التعامل مع مواد الدستور المصري الجديد كأنّها لم تكن. إذا ما أراد أن يحكم كحسني مبارك فدون ذلك شروط ليست تكفلها الأوراق التي بين يديه بعد.
زد على ذلك أننا أمام مفارقة فيما يتصل بموضوع الشرعية. ففي مصر اليوم، فائض من الشرعية غير الممأسسة، وهذه تركة الانتفاضتين الشعبيتين على مبارك ومرسي، وفيها فائض من اللاشرعية الممأسسة، وهذه تركة الانقلاب العسكري على مرسي والقمع الدموي لإعتصامي رابعة والنهضة وما تلاهما. في الاستفتاء على الدستور، كما في انتخابات السيسي، نحن أمام محاولة عسيرة بقصد الجمع بين الفائضين، بين الشرعية التي تجد صعوبة في تحقيق نفسها مؤسساتياً، وبين اللاشرعية التي تطرح نفسها مؤسساتياً.
في سوريا لا شيء من هذا القبيل. اللاشرعية مطلقة نظراً للتدمير الهيكلي الذي لحق بالمجتمع السوريّ، لكن أيضاً، وقبل ذلك، لأنّ «الجيش» هو حرفياً «ملك والده» للمدنيّ بشّار الأسد.
دلّت الرئاسيات السورية بلا شك على أنّ ثمة قاعدة شعبية لنظام آل الأسد، وأنها لا تختصر أبداً في العلويين والأقليّات، لكن هذه الشعبية لا تدرّ للنظام بأي شكل من أشكال الشرعية، بل تساهم بلا شرعيته، ما دامت شعبية تدميرية للمجتمع السوريّ. فأن يكون بالمقدور الكلام عن شعبية ما لبشّار الأسد مباشرة بعد الانتهاء من تدمير حمص وعشية الذكرى السنوية للهجمة الكيماوية، فهذا يبطل أي شرعية يمكن أن يدّعيها طاغية لنفسه. فليست هذه شرعية «المنقذ» من «حرب الكل ضد الكل» (هوبس)، لأنّ «حرب الكل ضد الكلّ» هي البرنامج الذي واجه به بشّار الأسد الثورة السورية. وهذه ليست شرعية «حسم» حرب أهلية بالحديد وبالنار، لأن من فعل ذلك، أي الجنرال فرنشيسكو فرانكو في اسبانيا، لم يحتج في ذلك الى الانتخابات. 
لأنه ليس فرانكو، لأنه ليس عسكرياً، بل مدنيّ يقود نظاماً عسكرياً لا تتجدّد فئويته الا به، احتاج بشّار الأسد لهذه الانتخابات، واحتاج في الوقت نفسه لأن تكون هذه ليست بانتخابات، ولا حتى على الطريقة المصرية. فالسيسي في آخر الأمر واجه مرشّحاً رئاسياً كان قويّاً في انتخابات 2012، ثم انحسرت شعبيته، بعد أن انتزعها المدّ العسكريتاري الشعبوي منه. أما بشّار الأسد فلم تكن لديه جرأة خوض الانتخابات حتى ضد قدري جميل أو عمّار بكداش. فضّل خوضها ضد «مواطنين»، تيمناً بذكرى زين العابدين علي وتجربته في هذا المجال. وبالتوازي، اعتبر أنه يصيب من الديمقراطية مقتلاً، ساعة يرفع نسبة المشاركة بشكل غير معقول في ظل حرب أهلية وتهجير مهول، ويخفّض نسبة الأصوات التي نالها، لتكون أقل بقليل مما نالها عبد الفتاح السيسي. أرادت الرئاسيات السوريّة أن تكون «اقليماً شمالياً» للرئاسيات المصريّة، وأحرجت على طريقتها مسارات «الإقليم الجنوبي»، الا أنّ التمييز بين الحدثين يبقى، بقيمة التمييز بين الحدث واللاحدث.

٭ كاتب لبناني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق