بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 7 يونيو 2014

تنميط الفلسطينيين وحركة تحررهم الوطني - خالد الحروب

يشتغل تنميط «الآخر» واختزاله في صور وتصورات مسبقة، غالباً ما تكون سلبية، في قلب سيرورات وعمليات وتفاعلات اجتماعية عدة، إن على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمعات. بعض تلك السيرورات متعارف عليها في سياقات العيش العادي، وبعضها يتفاعل في سياقات صراعية وتختلف درجات سوئها من جرح الشعور إلى
التأسيس للإبادات الجماعية. كلنا يواجه مشاهدات من «التنميط» الاختزالي لمجموعات وشعوب معينة حيث يوصف شعب ما بأنه «كسول» أو «بخيل» أو «خشن» أو «لطيف»، وسوى ذلك. وضمن ذلك تندرج ممارسة بشرية أخرى تكاد تكون معولمة، وهي تركيز النكات والمقولات الساخرة على مجموعة ما، أو شعب ما، ووضعها محط التهكم المتنوع في مقدار إهانته.

بيد أن السمة التهكمية وربما التحقيرية التي تنطوي عليها الممارسات والتصورات التنميطية في سياقات العيش العادي للمجتمعات تتحول إلى سمة تدميرية مهولة في السياقات الصراعية. ينتقل «التنميط» هنا من لعب دوره الساخر والمهين لـ «الآخر» إلى لعب دور مركزي في الصراع مع هذا «الآخر» وفي تهيئة أرضية الاحتراب معه، وتوفير المبررات التفوقية، وتخفيض مستوى إنسانيته تحضيراً لحربه وقمعه وربما إبادته. المثال الأبرز والأكثر فداحة والذي يزداد جلاءً في ضوء معالجة هذا الموضوع في مدينة كراكوف في الجنوب البولندي التي اكتسحها النازيون في الحرب الثانية، هو مثال التنميط النازي لليهود. فهذا التنميط لم يستثمر فقط مناخات العداء للسامية في ألمانيا وأوروبا اللتين ظلتا تنظران إلى اليهود باعتبارهم مجموعة دينية - إثنية محتقرة، لكنه انحط بذلك التنميط إلى درجة نزع الإنسانية عن اليهود بالمطلق واعتبارهم إن كأفراد أم مجموعة أقل مرتبة من مرتبة البشر الآخرين. وهنا بالضبط تكمن النتيجة الكارثية والمدمرة لآليات التنميط في السياقات الصراعية حيث تتم «شيطنة» «الآخر» و «حيونته» ونزع سمة الانتماء الإنساني عنه بما يسهل عملية قمعه وإبادته وتحييد الجمهور العريض الذي يعترض على عملية القمع والإبادة ذاتها لو تمت بحق مجموعة لم تتعرض لتنميط مماثل. ثمة أمثلة أخرى راهنة وفي السياق الأوروبي والغربي أيضاً تشير إلى خطورة التنميط ونتائجه التدميرية، منها ما يتعلق بالصورة شبه المتأبدة عن العرب والمسلمين. فخلال عقود طويلة ومنذ ما قبل حقبة الاستعمار المباشر طغت صورة العربي المسلم البدائي والمتوحش والبليد على الخيال الغربي، وعملياً كانت أحد مبررات الاستعمار الأوروبي الذي أراد «إنقاذ المتخلفين من تخلفهم». استمرت هذه الصورة النمطية إلى الوقت الراهن، وتجذرت مع تطور وسائل الاتصال الجماهيري، بخاصة في السينما والتلفزيون. فهنا، وفي أفلام هوليوود على سبيل المثل الأكثر وطأة وبروزاً، ترسخت صورة العربي ذي الصفات الكريهة، والتي لا تستحق إلا الاحتقار. ومرة أخرى تنتقل آليات التنميط الطويل المدى إلى مرحلة مدمرة إن نشأت أية سياقات صراعية. وقد لعب التنميط السلبي المعادي للعرب والمسلمين دوراً هائلاً في تهيئة مناخات التأييد لكل الحروب والسياسات المضادة للعرب وبلدانهم، بدءاً من الصراع على فلسطين والتأييد المطلق للمشروع الصهيوني «المتحضر» ضد العرب «المتخلفين»، مروراً بسلسلة الحروب على العراق، وليس انتهاءً بعدم تأييد الثورة السورية وترك الشعب برمته عرضة للالتهام من جانب أنظمة البطش المحلي منها والدولي.
بالانتقال إلى فلسطين والفلسطينيين في إطار نقاش التنميط الجمعي للشعوب وقضاياها وآمالها من المهم هنا اختبار آليات اشتغال التنميط السلبي للعرب الفلسطينيين في دعم المشروع الصهيوني وفي إقامة دولة إسرائيل، ثم في توفير الاحتضان الدولي، الغربي خصوصاً، والمتواصل حتى هذه اللحظة. يعود ذلك التنميط إلى حقبة ما قبل قيام إسرائيل وتأسس جزء كبير منه في العصر الحديث انطلاقاً من كتابات الرحالة الغربيين، بخاصة الأميركيين، إلى الأراضي المقدسة ووصفهم أهلها والسكان فيها بكونهم، وفق الرحالة العنصري مارك توين، «قذرين بالطبعية، أو بالفطرة، أو بالتعلم»! لم يستحق أولئك السكان في حقب لاحقة، تحت حكم الاستعمار البريطاني، أن يعاملوا بالطريقة نفسها و»المدنية» التي عومل بها اليهود «المتحضرون» المهاجرون المقبلون من أوروبا «المتحضرة». فمثلاً، لم تحتوِ مناهج التعليم البريطانية في المدارس الفلسطينية آنذاك والمُسيرة من جانب الإدارة البريطانية على مساق تعليم الموسيقى وهو المساق الذي تضمنه المنهج المُطبق نفسه في المستعمرات اليهودية. ليس هناك من تفسير لهذا سوى اعتقاد المسؤولين البريطانيين أن الفلسطينيين أدنى مستوى من اليهود، وأنهم غير جديرين بتعلم الموسيقى التي ترتبط ذهنياً وتصورياً بالرقي والمدنية. ورث المشروع الصهيوني وخطاباته العنصرية والاحتقارية ضد عرب فلسطين التنميط الذي كان قد أسسه البريطانيون ورسخوه، وأضافوا إليه أبعاداً جديدة. فاليهود الهاربون من عنصرية أوروبا والمعبئين بمشاعر الاضطهاد الجمعي والضحية وجدوا في الفلسطينين عدواً سهلاً، أقرب إلى الفريسة، لتفريغ نزعات الانتقام فيه، ولإثبات الذات والثورة على سمة الضعف والاستضعاف التاريخي التي لاحقت اليهود في التاريخ والعالم وفق السردية المركزية للخطاب الصهيوني. بعد جريمة «الهولوكوست»، ثم قيام إسرائيل أصبح الفلسطينيون هم المحطة الأولى والأقرب لتطبيق شعار «لن يحدث مرة ثانية»، في إشارة مباشرة إلى «الهولوكوست»، لكن في تضمين مرمز وعميق يحيل إلى التصميم المطلق والمطبق على الانتفاض على حقبة الاستضعاف. وضمن سياق هذا الشعور الانتفاضي والذي تهيأت له ظافرية نادرة بسبب قيام الدولة، فإن مقاومة الفلسطينيين مشروع اغتصاب أرضهم وتهجيرهم منها، تم وضعها على الفور كأول اختبار لزمن جديد، زمن القطع مع حقب الاستضعاف. واحتل الفلسطينيون فجأة وعلى غير رغبة منهم موقع الطرف الذي يريد اليهود الذين تجمعوا وصارت لهم دولة أن يفرغوا ثأرهم التاريخي فيه، انتقاماً من الماضي، وإثباتاً لذات جديدة. ومن دون أن يكون لهم أي ذنب في تطور التاريخ المأسوي لليهود، وجد الفلسطينيون أنفسهم يدفعون فاتورة كل الاضطهادات التي تعرض لها اليهود في تواريخهم، خصوصاً في أوروبا. هكذا، أضيف تنميط تدميري جديد للفلسطينيين بكونهم خلاصة تجمع العداوات التاريخية لليهود بدليل أنهم لا يقبلون باليهود ولا بدولتهم ويطلقون مقاومة ضدهم. وهذا بالطبع يخرج الفلسطينيين من مربع النضال القومي والوطني ضد محتل أجنبي، إلى مربع العداوة المتأصلة واللاسامية لليهود. وقد تمت مأسسة أخرى لهذا التنميط وربطه بالعدو الأكثر إرهاباً في التاريخ اليهودي الحديث وهو النازية، وأصبحت الزيارة الساذجة للحاج أمين الحسيني إلى ألمانيا ولقاؤه بهتلر إبان الحرب العالمية الثانية، نكاية في بريطانيا وأملاً بدعم ألمانيا، العمود الفقري للتاريخ الفلسطيني والدليل الدامغ ليس فقط على «لا سامية» الفلسطينيين والعرب، بل على امتداد مشروع إبادة اليهود من ألمانيا إلى فلسطين وتكامل الاثنين. والمثير حقاً أن الدعاية الصهيونية لم تضخم فحسب تلك الزيارة إلى مستوى تكريس «علاقة استراتيجية» بين الوطنية الفلسطينية والنازية، بل «اكتشفت» أن فكرة إبادة اليهود إنما هي أصلاً فلسطينية، وقد تمكن أمين الحسيني من إقناع هتلر بتنفيذها! والغرابة هنا تكمن في مدى وقاحة هذه الدعاية التي تضرب بعرض الحائط كل ما له علاقة بالتاريخ ورغبة هتلر وتشجيعه اليهود على الهجرة إلى فلسطين والتخلص منهم.
بيد أن هذه الدعاية الرخيصة كانت وما زالت فعالة حقاً ليس فقط إزاء قضية الحسيني وعلاقته بالنازية، بل في خلق أنماط وصور اختزالية للفلسطينيين تسهل على الرأي العام العالمي قبول ممارسات إسرائيل. ويمكن هنا رؤية أن الاستراتيجية الصهيونية والإسرائيلية ومنذ اليوم الأول لقيام إسرائيل تنطلق على مسارين: الأول الانخراط في معركة على أرض الواقع لتغيير جغرافيا فلسطين، احتلالياً وعسكرياً، من خلال خلق وقائع استراتيجية وسياسية على الأرض، والثاني الانخراط في معركة مستميتة على مستوى الرطانة والخطاب تقوم على تنميط الفلسطينيين والعرب وتصويرهم بأنهم «النازيون الجدد» الذين يريدون إبادة إسرائيل، بالتالي لا ضير من قمعهم وإبادتهم «وقائياً»، وهذا يحتاج إلى تفصيل إضافي مكانه المقالة التالية.

* كاتب وأكاديمي عربي
(جزء من مداخلة في مؤتمر Nations and Stereotypes: New Borders, New Horizons في كراكوف، بولندا بين ٤ و ٦ حزيران (يونيو) ٢٠١٤ في سياق النقاش لمناسبة مرور 25 عاماً على انهيار الستار الحديد)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق