بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 يونيو 2014

محمود درويش في فخ «تامار» -عبده وازن

نجحت المخرجة الفلسطينية ابتسام مراعنة في إلقاء ضوء ساطع على شخصية «ريتا» التي كتب محمود درويش لها اكثر من قصيدة، ومثّلت ما يشبه السر الذي لم يكشف الشاعر خلال حياته الا نزراً يسيراً منه. بدا الفيلم الذي انجزته هذه المخرجة وعنوانه «سجل أنا عربي» بمثابة مفاجأة جميلة بما يحمل من صور ووثائق ورسائل تثبت هوية
«ريتا» الفتاة الإسرائيلية التي وقع شاعرنا في حبها اللاهب عندما كان في مقتبل ربيعه ابن اثنين وعشرين عاماً. مكثت الصور والرسائل التي كتبها الشاعر بالعبرية التي كان يجيدها، مجهولة طوال اعوام، مع ان محمود لم ينكر هذا الحب يوماً، بل هو اخبر بضعة من اصدقائه عنه معلناً الاسم الحقيقي لـ «ريتا».
إذاً «ريتا» القصائد هي تمار بن عامي الإسرائيلية، البولندية الأب والروسية الأم، فتاة من اليهود المهاجرين، ذات هوية مركّبة، تعرف اليها الشاعر في حفلة كان يقيمها الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي انتمى اليه فترة ثم غادره. وكانت تمار نجمة هذا اللقاء الشبابي الشيوعي وقدمت رقصة سحرت بها الشاعر الفلسطيني الشاب مثلما سحرها هو. وعلى غرار ما يحدث في التراجيديا الإغريقية أحب الفلسطيني عدوته، والإسرائيلية عدوها. غير أن العلاقة الشائكة انتهت بعد فترة وجيزة بلا انتقام ولا خيانة. فهذه الفتاة ابنة السابعة عشرة ما لبثت أن التحقت بصفوف الجيش الإسرائيلي لتصبح «عدواً» على الجبهة. وقيل إن الشاعر اصرّ عليها أن تتحاشى الخدمة العسكرية لكنها لم تلبّ رغبته. حينذاك كتب لها يقول: «فتحت قلبي، وللتوّ سأغلقه. الى اللقاء». وكان على هذه العلاقة ان تنتهي لتبقى منها ذكريات وقصائد يقطنها طيف تمار وقد أصبح اسمها «ريتا». عمّدها الشاعر ونقلها من اليهودية الى المسيحية. فريتا هو اسم إحدى القديسات المعروفات في الكنيسة الكاثوليكية، وتمار اسم يهودي رائج جداً وقد حملته في كتاب «التوراة» نسوة كثيرات وأبرزهن تامار الزانية التي ضاجعت والد زوجيها، الأخوين الشريرين، عير وأونان، وحملت منه.
يكشف الفيلم رسائل محمود العاشق الى تامار التي تطل في لقطات كثيرة بعدما قاربت السبعين، وقد فقدت نضارة الصبا. والرسائل التي كتبها بالعبرية تفيض عشقاً وغزلاً ورومنطيقية، مع أن علاقتهما لم تكن عذرية وفق ما قال محمود: «في الغرفة كنا متحررين من الإسماء ومن الهويات القومية والفوارق، ولكن تحت الشرفة كانت هناك حرب بين الشعبين» (مجلة «الكرمل»- العدد 52، 1997 ). لم يخجل محمود من هذا الحب الذي تفصل بين طرفيه «بندقية» كما تفيد قصيدته الشعبية «ريتا والبندقية» («آخر الليل»1967) ولم يتردد في الكتابة اليها قائلاً علانية: «شكراً لك يا تمار، لأنك جعلت لحياتي طعماً». لم يقل لها: «منحت حياتي معنى» كما يردد معظم العشاق الكبار، قال «طعماً» وفق الترجمة العربية للرسائل، والطعم هو من اعمال الحواس، وكيف إذا كان العاشق في أوج نضارته الجنسية.
لكنّ ما لفتني لدى مشاهدتي الفيلم الدعائي الموجز الذي وزعته المخرجة عبر «اليوتيوب» وفيه لقطات مهمة من الفيلم الأصلي الطويل، هو ان المخرجة ابتسام مراعنة تحمل شهرة إضافية هي «منوحين» كما ظهر في الفيلم، ما يعني أنها متزوجة من رجل يهودي، وما قد يعني انها اسرائيلية ولو مجازاً. هذه الشهرة الإسرائيلية لم تظهر إلا في الفيلم، فهي عربياً معروفة باسمها الفلسطيني وإسرائيلياً باسمها العربي الإسرائيلي. هذا الأمر يعنيها وحدها. مثلما وحدها يعنيها ان يكون إنتاج فيلمها اسرائيلياً على رغم النقد الذي وجهه اليها مناهضو «التطبيع» مع اسرائيل، وكذلك مشاركة هذا الفيلم في «مهرجان الربيع الإسرائيلي للأفلام الوثائقية» وقد حاز جائزة الجمهور. والسؤال الذي لا بد من طرحه هنا هو: من أتاح للفيلم فرصة الفوز بالجائزة، الجمهور الإسرائيلي أم الجمهور العربي الذي تمكن من مشاهدة الفيلم حين عرضه في حيفا؟ وفي طريقة أخرى: هل جمهور تامار هو الذي ساهم في نجاح الفيلم أم جمهور محمود درويش؟
ما كان شاعرنا ليرضى بعنوان الفيلم المأخوذ من قصيدة بات يكرهها في الآونة الأخيرة وهي «سجل أنا عربي»، فهو أولاً، كان يعلم أن هذه القصيدة هي من شعره النضالي والسياسي المباشر والسطحي، الهادف الى إثارة الحماسة المجانية، هذا الشعر الذي كاد ينكره رافضاً قراءة قصائد منه في أمسياته، ثم كان على يقين أن العروبة التي تغنى بها هنا، لم تبق على قيد الحياة بعد ما بلغت الحال العربية أدنى انحطاطها. لم يكن محمود ليرضى على هذا العنوان، لاسيما انّ الفيلم موجّه الى الإسرائيليين. وكانت المخرجة ذكية في التوجه اليهم عبر هذا الفيلم الذي أظهرت الشاعر فيه يتحدث بالعبرية الطليقة، وعن امور تظهره شاعراً شبه مسالم وشاعراً فرداً «بالكاد يمثل نفسه» كما ورد في الفيلم، وليس صوت جماعة وتاريخ، يمدح الجزار بصفته هو الفلسطيني، ضحية قادرة على حب الجزار ولو في صورة فتاة التحقت بالجيش الإسرائيلي.
قد يكون فيلم ابتسام مراعنة منوحين عن محمود درويش جميلاً وفريداً وفق ما شاهدناه في الفيلم الدعائي المختصر، لكنه حتماً ليس فيلماً بريئاً. دلالات كثيرة وإشارات تؤكد عدم براءة هذا الفيلم. ولكن ينبغي الانتظار ريثما نشاهده كاملاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق