بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 يونيو 2014

رسالة الغفران… والانفتاح على الآخر المتعدد د. زهور كرام

في زمن اللحظة الهاربة من العقل، والموغلة في الالتباس، والتناقض، ورائحة الجثث بدون كفن، وجنازة،حيث يفقد المعنى لمعناه، والقيمة لقيمتها، والإنسان لإنسانيته، والدم للونه، بعدما ضاع في مجرى الالتباس، في زمن تتحول فيه الجغرافية إلى خريطة دم، والتاريخ إلى ركام من الدما ر، والهوية تغادر السؤال، في هذا الزمن يصبح المجيء إلى التراث واجبا تاريخيا، حتى لا تنسفه اللحظة الهاربة من العقل. 
هي نفسها اللحظة التي جعلتني أستحضر معرة النعمان، بشمال سورية، حين سافرت إليها ذات مناسبة ثقافية، لأشارك في ملتقى المعري الذي يقام أو كان يقام بالمعرة، حول كتابات أبو العلاء المعري. 
رحلتي إلى معرة النعمان، أتذكر، كانت تشبه « رسالة الغفران»، لأنها لم تكن سفرا إلى مكان ثابت، أو جغرافية محددة المعالم، إنما كانت بحثا في ذاكرة المعري، وسفرا في نصوص رسالته، وقبل ذلك، كانت، سفرا موجَها، بما حملته ذاكرتي عن دمشق، والمعرة وأبي العلاء المعري، ورسالة الغفران.
وجدت الذاكرة تسبقني إلى المكان، وتتجسد أمامي جغرافيا، أمكنة، أزقة، أثار. كان يكفي بعض الخيال، مع بعض الطفولة في ممارسة اللعب المباح، لكي أغمض عيني، وأرى المعري وهو يمشي في أزقة المعرة، وهو يلتقي بالشعراء، ويجادلهم، وبالفقهاء ويحاورهم، .. كنت أتخيله في كل ركن من جغرافية المعرة.. لم يكن البحث عن الدليل التاريخي مهما، لأن التخييل حين يأتي بطعم الطفولة والإبداع، يكون له سحر استثنائي. ذاك ما عشته، وأنا أتجول في مقامه، وأنا أتحدث عن رسالته الخالدة.
التاريخ امتلاء ضد الفراغ، انتماء ضد العبث الوجودي، والذاكرة ارتواء ضد العطش التاريخي، والتراث نحن، حين نجيد الإقامة فيه، بشروط عقلنا وتفكيرنا. 
كيف المجيء إلى التراث؟ إنه سؤال يحدد وضعية الذات القارئة، أكثر من وضعية التراث. يكشف علاقة الذات القارئة بذاكرتها، وإلى أي حد تمتلك جرأة اختراق ترتيب هذه الذاكرة، أكثر من تفكيك خطاب التراث الذي يظل خطابا مقبلا على الحياة في الحاضر، والمستقبل، حسب وضعية قراءته. قد يشكل التراث موضوعا للتفكير، لكنه، يحوَل الذات إلى موضوع للتفكير، عندما يكشف علاقتها بالصور الجاهزة، وعدم قدرتها على إعادة تفكيك الذاكرة. 
في زمن اللحظة الهاربة من العقل، تصبح إعادة قراءة التراث إمكانية للوقوف عند طبيعة الذات، لعلى ذلك يساهم في قراءة التباس زمن اللحظة.
عندما نعيد قراءة «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، باعتبارها من أهم السرود التراثية العربية، سنجدها خطابا يؤسس لفكرتين مهمتين: من جهة الانفتاح على الآخر بتعدده وتنوعه، ومن جهة ثانية، محاورة الذاكرة، واختراق الصور الجاهزة. فكرتان تشخصان بلاغة «رسالة الغفران» في تشييد عمل إبداعي، يمثل- رمزيا- حالة الوعي السائدة، وينتج معرفة بمنظومة القيم التي كانت مهيمنة سواء على مستوى السلوك الاجتماعي، أو على مستوى التمثلات الذهنية. لا شك أن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، من أهم النصوص العربية التي تعبر عن نظام بنائي سردي مركب، يشخص حالة الوعي لدى المبدع التراثي العربي لأسئلة التعبير والكتابة والحكي. وكذا لشكل تسريد المجتمع، وكلامه ولغته، وثقافته، ورؤاه وإدراكاته للعالم. وذلك لامتلاكها بلاغة الارتقاء باللحظة الإبداعية إلى حالة سردية، تتفاعل فيها أزمنة وعصور وخطابات وأشعار وكلام الفقهاء واللغويين. كما تميزت ببلاغة الانفتاح على الحركية السردية، باستحضار أساليب ونصوص وطرائق متعددة في التعبير. 
إن رسالة الغفران باعتبارها جوابا على رسالة «ابن القارح»، فإنها تتجاوز المرسل إليه، وتنفتح على عوالم كثيرة، يصنع بها المعري حكايته عن العالم الآخر. 
وإذا اعتبر الكثير من الباحثين رسالة الغفران، شكلا نثريا يؤكد أهمية التراسل الذي كان سائدا في عصر المعري، والذي كان يهدف إلى إظهار البراعة اللغوية للمرسل، وعرض مظاهر الذاكرة المقروئية، وفي ذلك كان يتباهى المبدعون والفقهاء واللغويون فيما بينهم، فإن التراسل يمكن اعتباره- من وجهة نظر أخرى- تعبيرا عن قوة حضور الآخر في وعي الذات. لأن التراسل هو سفر نحو الآخر، مع حضور الذات التواقة إلى الآخر، وأيضا سفر بمرافقة ضمير الآخر الذي يعد مكونا منظَما لخطاب الرسالة. في غياب الآخر، يسقط منطق التراسل.
تأتي رسالة الغفران ممتلئة بالآخر المتعدد، والمتنوع في خطابه وفكره وطريقة تعبيره. يستدعي المعري إلى رسالته مجموعة من الشعراء الذين ينتمون إلى عصور متفاوتة زمنا، بدء من العصر الجاهلي، ومن لغويين يحضرون بأطروحاتهم اللغوية، وآرائهم الجدلية، ومن فلاسفة يقيمون بالرسالة من خلال تصوراتهم . يدخلهم المعري إلى عالم الجنة والنار، ويدفع بهم في متخيل رسالة الغفران، إلى القيام بوظائف جديدة، تتحدد في علاقتهم فيما بينهم من جهة، وبابن القارح من جهة ثانية. ينشأ عن هذه العلاقات حوارية داخلية بين نصوص ولغات، وبين كلام المتكلمين، حيث ينتصر السرد للقول هنا. وكما قال عبد الفتاح كليطو ليس في رسالة الغفران مكان للبكم. فالشخصيات تحضر بكلامها، ووجهة نظرها، وآرائها التي تغير أحيانا وجهة نظر السارد ابن القارح، كما تغيَر نظام الكتابة.
تمنح رسالة الغفران مكانة خاصة للقول الذي يتحكم في عملية إنتاج السرد. وبالتالي، فإن من استحق البعث في العالم الآخر من الشعراء والفقهاء واللغويين هم الذين كانوا يملكون جرأة التعبير والقول بطريقة إبداعية خلاقة، تنتج الموقف. وهذا ما شخصته حالة استغراب «ابن القارح» عندما يلتقي شاعرا وقد نال الغفران بسبب قول حكيم، أو بلاغة في التعبير.هكذا، تشكلت «رسالة الغفران» من نصوص نثرية، وشعرية ولغوية وفقهية وأسطورية تحضر، إما بأبنيتها كقصائد شعرية، يتم إدراجها ضمن حوار بين الشاعر وابن القارح حول مسألة إبداعية أو لغوية أو فقهية، أو عبر تسريد الشعر، وتحويله إلى لغة ساردة، وهو مظهر سردي تميزت به «رسالة الغفران» التي تؤسس لعنصر التجاوز، وذلك لأن تسريد الشعر يعد خرقا للصورة الذهنية للشعر في الذاكرة العربية.
في رسالة الغفران يعيش الشعر اختراقات بنيوية داخلية. إذ، يعمل السرد على تطويعه، ليصبح أسلوبا حكائيا بامتياز، ويلجأ إليه السرد عند المعري لتشخيص حالات نفسية وإنسانية وفلسفية، وتصوير مشاهد في عالم الجنة والنار. تصبح رسالة الغفران بهذا الشكل، ملتقى التصورات والمواقف حول قضايا فلسفية ووجودية ودنيوية ودينية ولغوية. وبهذا، فإستراتيجية السرد في رسالة المعري، تستجيب للطروحات التي تجعل من السرد عبارة عن إعادة تشكيل الهوية الاجتماعية والثقافية بصياغة جديدة.
تتحقق رسالة الغفران من الآخرين. لا تًدرك رسالة المعري إلا من خلال إدراك الآخرين، شعراء وفقهاء وفلاسفة. كما لا يدرك كل هؤلاء إلا من خلال الوعي بخطاباتهم، ونصوصهم ولغاتهم وآرائهم. ينتج هذا الوضع البنائي في الكتابة لدى المعري، معرفة بماهية المبدع زمن النص التراثي العربي. إنه مبدع منفتح على الآخر عبر انفتاحه على ذاكرته المشبعة بنصوص ولغات الآخر. عندما يتعطَل الآخر عن حضوره الوظيفي داخل رسالة الغفران، تسقط نصية الرسالة. الآخر منتج للرسالة، والمعري مقبل على الآخر، والعلاقة بين الفعلين، أو الذات والآخر، تؤسس لحوارية تفاعلية، ما تزال شاهدة على انفتاح السرد التراثي على أقوال الآخر، وعلى جرأته على تفكيك الصور الذهنية المتوارثة مثلما حدث مع تسريد الشعر.
قبول الآخر باعتباره رؤيا، ووجهة نظر، مؤهلة لتغيير نظام تفكيرنا، والجرأة على تفكيك الصور الجاهزة، ومحاورة الذاكرة الجماعية، وإعادة ترتيب نظامها، تعد تمثلات رمزية يزخر بها التراث. 
ليس إذن، المشكل في التراث، إنما في طريقة المجيء إليه، وفي شكل التواصل معه. قد ننطلق من التراث موضوعا لتفكيرنا، غير أن التراث يحولنا إلى موضوع لمنطقه الذي يتجاوزنا حين يفضح التباس زمن اللحظة الهاربة من العقل.
٭ ناقدة وأكاديمية مغربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق