بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 يونيو 2014

التاريخ شيء والوطن شيء آخر - محمد علي فرحات

الأوطان حصيلة مصالح مشتركة بين المواطنين قائمة على ما يشبه عقداً اجتماعياً وتفاهماً على العلاقة مع الجوار الجغرافي والعالم، كما على الشكل العام للدولة.
لا يقدّم تاريخنا ولا تاريخ أوطان كثيرة جواباً حاسماً على هوّية محددة. التاريخ شيء والهوية الوطنية شيء آخر، وإن تداخل أحدهما بالآخر من باب الإسناد لا التهديم.

في هذا المعنى لا يشكل التاريخ بوقائعه القلقة خطراً على الوطن بمقدار ما يأتي الخطر من الإرادات السياسية للمواطنين وقياداتهم السياسية، حين لا يأبه هؤلاء بخطورة الخروج على العقد الوطني من أجل مصالح عابرة أو لنصرة حلفاء خارج الحدود.

ماذا كان يعني كتاب التاريخ اللبناني للفتى وجيه كوثراني الذي أمضى طفولته الأولى في أنصار (قضاء النبطية) وباقي حياته في بيروت؟ إنه كتاب يؤرخ قلق الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جبل لبنان، وبالتحديد منطقة الشوف بمداها المتسع، وهو بالتالي يؤرّخ هوية قلقة لشعب قلق.

ثمة أمراء محليون ارتضوا وارتضت لهم الدولة العثمانية، أن يجبوا الضرائب باسم الدولة وأن ينسّقوا (أو يتّبعوا، إذا تراجعت ثقة الباب العالي بهم) مع والي دمشق أو مع والي عكا.

كتاب التاريخ المدرسي يؤلف إمارة لبنانية من خصوصية إدارية في العهد العثماني، يضيفها إلى خصوصية جغرافيّة ذات ملامح حضارية منذ الفينيقيين البحارة التجار (ومع التجارة تبادل ثقافي) الذين أرسوا محطاتهم في مناطق بعيدة، يذهب البعض إلى إدراج أميركا في هذه المحطات قبل أن يكتشفها كولومبوس، بشهادة حجر مونتريال الذي يضم نقوش حروف فينيقية.

قد يكون القلق حافز وجيه كوثراني إلى الاختصاص في مادة التاريخ وتعليمها جامعياً والكتابة فيها، ويتعزز هذا الحافز خارج الإطار الأكاديمي بالسجال السياسي الثقافي اللبناني الحاد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وبوطأة الجوار العربي مع القضية الفلسطينية ومع البعثَيْن في سورية والعراق. حينها جنح حلم الستينات الشبابي بطلاب جامعيين ومتخرّجين جدد إلى تشكيل حلقات نقدية يسارية أوصلت البعض إلى تجديد الانتماء إلى الأكاديميا للوصول إلى معرفة أعمق بتاريخ لبنان ومحيطه، وأوصلت البعض الآخر إلى العمل الحزبي وإحراق الأصابع في حروب لبنان المعقّدة.

وجيه كوثراني، ومعه آخرون أبرزهم وضاح شرارة، لم يسقطوا في الحرب بمقدار ما واكبوها نقدياً، كلٌّ من موقعه، مؤرّخين وعلماء اجتماع.

وكان لا بد لمؤرخ مثل كوثراني، حين ينطلق من وطنه لبنان، أن يعود إليه عبر مسار طويل يمر بالعروبة وتعثّر الفكر القومي وتشكلاته السياسية في المجتمع وفي سدة حكم يستمد شرعيته من «الاستعداد لقتال إسرائيل»، كما يمر باليسار الدولي في تمظهراته الثلاثة، السوفياتي والصيني الماوي والأوروبي المغامر الذي يستلهم أدبيات تروتسكية، هذا اليسار الذي قضم سنوات من أعمار شباب الستينات والسبعينات، ما لبث أن تحلل في حروب أهلية تلبي مصالح دول في الإقليم أو دول كبرى.

وفَرَضَ الإسلام السياسي بعد الثورة الخيمنية الإيرانية نفسه على مسار المؤرخ، خصوصاً بعدما أيقظت إيران الإسلام السياسي السنّي الأكثري لينافسها، ثم يتصارع معها، من باب أن الزعامة لأكثرية المسلمين وليست لأقليتهم، مهما حاولت طهران التقريب وإغراء الأكثرية وإدخال تعديلات على النهج الأقلّوي الشيعي الذي كان ينصرف إلى الشعارات الإسلامية المشتركة، أو إلى قضايا بناء الدولة والمصالح القومية والوطنية.

حاول وجيه كوثراني، ونجح في معظم الأحيان، تفادي الانزلاق في الاصطفاف الإسلامي - الحداثوي ثم في الاصطفاف السنّي - الشّيعي. ساعده في ذلك اعتماده الوثيقة في تدوين الحدث التاريخي وتحليله، وكان أول الطريق جانباً من تاريخ لبنان الحديث وفق الوثائق الفرنسية.

ويقدّم كوثراني نفسه مؤرخاً لا منظّراً أيديولوجياً، وفي برودة العلماء وقارئي العلماء تتشكل رسالة مفادها أن التاريخ ليس بالضرورة مستنداً وحيداً للهوية الوطنية، ذلك أن الأوطان تجاوزت وصفها القديم كمعادل جغرافي للقبيلة أو الدين أو المذهب أو العقيدة الوضعية.

* كاتب لبناني من أسرة «الحياة»، والنص شهادة في «اسم عَلَم»، الإطار التكريمي الذي نظمته الجامعة الأنطونية - بعبدا (لبنان) للمؤرخ وجيه كوثراني، وساهم فيه بأبحاث كل من أمين الياس وأنطوان سيف وباسم الراعي وخليل أحمد خليل وسعود المولى وشمس الدين الكيلاني وكمال عبداللطيف ومنذر جابر، كما ساهم بشهادات كل من إبراهيم بيضون وإبراهيم شمس الدين وأحمد بيضون وزينات بيطار وعبدالحميد هنية وعصام خليفة ومحمد علي فرحات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق