بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 11 يونيو 2014

◘ «حكاية حياتي» لكازانوفا: مغامرات الخليع للسخرية من المجتمع -ابراهيم العريس

«ان الثقافة الغربية الرفيعة التي لا يستهويها في الحرية الجنسية سوى ما فيها من هرطقة ضد قيم المجتمع، لا يمكنها أن تغفر لكازانوفا كونه عاش سعيداً من دون أي مركبات نقص في هذا المجال. هذه الثقافة نفسها، ومنذ زمن طويل جعلت من دون جوان بطلاً من أبطال مجتمعنا... حيث إن ما يفتنها لديه إنما هو عنصر الإقدام والتحدي والقدرة
على جلد الذات وسوء العلاقة مع الأب من جهة ومع السماء من جهة أخرى. مهما يكن، فإن كازانوفا نفسه هو على النقيض تماماً من دون جوان، بالنظر الى انه عاش وهو يعرف تماماً كيف يستمتع بسعادته، من دون أن يضطر الى مقارعة تلك القوى التي تحظّر عليه تلك المتعة». هذا الكلام الذي كتبه مؤلف معاصر عن كازانوفا، يمكنه، في الحقيقة أن يكشف جانباً أساسياً من علاقة سوء التفاهم التي قامت دائماً بين كازانوفا والمتحدثين عنه، أو حتى قارئي مذكراته، ذلك الكتاب الشهير الذي لا شك يحاط هو الآخر بالكثير من ضروب سوء الفهم. ومع هذا يعتبر كتاب «المذكرات» هذا، وعنوانه الأصلي «حكاية حياتي»، واحداً من أشهر كتب المذكرات في القرون الغابرة، كما يعتبر واحداً من أشهر الكتب «الإباحية» في تاريخ الأدب الغربي. ولكن ماذا لو كان «حكاية حياتي» لا يفرد الى الجانب الإباحي سوى الجزء الضئيل جداً من صفحاته، تاركاً معظمها للحديث عن حياة المجتمع وعيوبه وأسراره في طول أوروبا وعرضها؟ ماذا لو كان الكتاب دراسة عميقة للأخلاق والنفوس والأهواء في زمنه، أكثر بكثير مما هو كتاب يروي مغامرات كازانوفا الغرامية؟

> والحقيقة ان هذا الأمر ليس سوء التفاهم الوحيد المتعلق بهذا الكتاب، إذ هناك أيضاً السؤال عمن كتبه حقاً. فـ «حكاية حياتي» الذي صدر للمرة الأولى، مقتبساً الى الألمانية عام 1822، بعد ربع قرن تقريباً من موت كازانوفا، وصدر بالفرنسية - اللغة التي بها كتب أصلاً - عام 1826، قيل دائماً ان كازانوفا كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته (أي خلال النصف الأول من تسعينات القرن الثامن عشر)، بل قيل ان مؤلفه الحقيقي هو ستاندال، الكاتب الفرنسي الذي لم يكفّ عن إبداء اعجابه بشخصية كازانوفا ومغامراته. ومهما يكن من أمر، فإن ثمة أصلاً مخطوطاً للكتاب وجد في قصر في لايبتسيغ، أجمع الباحثون على أنه من كتابة كازانوفا نفسه، وهو يختلف الى حد ما عن النسختين المنشورتين أولاً. ومع هذا، لا يسعى الباحثون الى التركيز على هذا الأمر كثيراًً، طالما أن ما في «حكاية حياتي» يروي حقاً، وفصلاً بعد فصل، ما تؤكده وثائق ومدونات تلك المرحلة عن حياة كازانوفا كما عن مغامراته، ناهيك - وهذا هو الأهم - بأن ما يصفه كازانوفا في كتابه من حياة المجتمعات الأوروبية وأمزجتها وأخلاقياتها يبدو شديد الدقة ويمكن استخدامه حتى من المؤرخين.

> فالحال ان قراءة معمقة ودقيقة لـ «حكاية حياتي» تجعل حكايات المغامرات الغرامية، التي عاشها كازانوفا وصنعت له شهرته كزير نساء محتال وأفّاق، أمراً ثانوياً، مقارنة مع الجانب الاجتماعي في الكتاب. غير ان كازانوفا لا يصف لنا هذا كله إلا من خلال نظرته ومعايشته الشخصية، بادئاً من سيرته الذاتية التي تلي مقدمة حاول فيها أن يبرر سلوكه الشخصي الذي كان أهل مجتمعه يرونه مشيناً. وهكذا يروي لنا ولادته عام 1725 في البندقية، وطفولته قبل أن يصبح في الثامنة من عمره حينما بدأ يراقب الناس ويرصد أحوال المجتمع من حوله بعينين مفعمتين بالفضول. والحال أن مجتمع البندقية كان يوفر لأي راصد، ومهما كان شأنه، فرصة ذهبية للتأمل والمقارنة. وهكذا راح صاحبنا يفتح عينيه على العالم وعلى الناس، وقد آلى على نفسه باكراً - وكما يقول لنا هو نفسه - أن يبدأ بالسعي للعثور على دور له يلعبه في بيئة كهذه. غير أن جدّته التي كانت هي من يتولى أمر تربيته، تقطع عليه هذا المسار، إذ ترسله وقد أضحى في سن المراهقة الى بادوفا ليدرس. وهناك يلتقي حبه الأول: الحسناء بتينا التي ما أن يهيم بها حتى يكتشف أن لديه غريماً جدياً تفضله هي عليه، فلا يكون منه إلا أن يوحي للناس بأن الفتاة ممسوسة، وهكذا يبتعد عنها الغريم، لتكون تلك أول مغامرة نسائية حقيقية في حياة كازانوفا. وكانت كذلك فاتحة سلسلة طويلة عريضة من مغامرات يرويها لنا في كتابه، وتضعه أحياناً كثيرة في موضع الخطر، كما في موضع لوم المجتمع، لكن كازانوفا إذ يروي هذا كله، لا يشوب روايته له أي مرارة، بل يرويه بسعادة ومرح كأن سعادة حياته كلها إنما صنعت من مثل هذه الأمور. أو كأنه يريد أن يؤكد ان ذلك كله قد أعطاه حريته... وأن تلك الحرية التي استقاها من الحدود القصوى للمغامرة، كانت هي ما مكّنه من أن يتعامل مع المجتمع بحرية وأن ينظر اليه، دائماً، بتهكم وسخرية.

> ونحن إذ نقول هذا، نكون قد وصلنا الى الجانب الأهم والأعمق من جانبي كتاب «حكاية حياتي». فالحال ان كازانوفا إذ تنقل بين عواصم أوروبا وقصور سادتها الكبار، بعدما عاش أولاً متنقلاً بين المدن الايطالية ثم الفرنسية، تمكن من أن يتجابه ميدانياً مع الضعف الإنساني في أقسى تجلياته. ذلك ان حريته وترفعه مكّناه من ألا يحتاج أحداً. وقد مكّنه هذا بدوره من أن يحس بانطلاق غريب رافقه طوال حياته وجعله قادراً على الرصد الدقيق للمجتمعات وأهلها. فهو، كما انه حينما ناهز العشرين ارتدى مسوح القسيس، خلعها ليرتدي مسوح الضابط العسكري، ثم مسوح المدني، ما جعله مراقباً للعوالم الثلاثة، تنقل دائماً بحس المغامرة الذي طبعه، وكذلك بفضل قدرته الفائقة على الاحتيال - في شكل يجعله خليفة حقيقية لأبطال المقامات العربية -، تنقل بين القصور والطبقات الاجتماعية. وهو إذ يحدثنا في الكتاب عن هذا كله، غير آبه إذا اضطر الى الحديث عن عيوبه ومساوئه الشخصية كما عن ضروب احتياله، طالما ان هذا يمكّنه من الحديث الصريح عن الآخرين، نجده نصيراً حقيقياً للصدق في الرواية، ميالاً بشكل حقيقي الى مناصرة الطيبة الغريزية والجمال بشكل ندر أن عُهد وجوده إلا لدى كبار الفلاسفة الأخلاقيين المتأملين. وهكذا، إذ يصف لنا كازانوفا تنقله طوال نصف قرن بين لندن والقسطنطينية، بين باريس وروما، بين فيينا وبراغ وميلانو وغيرها، يصف لنا مؤامرات القصور ومناورات الكواليس وطموحات الرجال وغرور النساء في أوروبا النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أوروبا التي كانت تعيش واحدة من أغرب المراحل الانتقالية في تاريخها. ومن هنا جاء هذا الجانب في الكتاب صورة حقيقية وقاسية جداً لأوروبا هذه، صورة لا تخلو من أبعاد سيكولوجية رهيفة، في وصف الكاتب للملوك وللمحظيات، للمغنّين والممثلين، للتجار والصناعيين، للشرفاء والأفّاقين... باختصار لكل العناصر التي كانت تكوّن مجتمعات أوروبا في ذلك الحين. والأجمل من هذا كله وصف الكاتب لأسلوبه هو في التحرك داخل متاهات تلك العوالم ورمالها المتحركة، وغالباً من طريق مغامراته النسائية التي يقدم عليها، أحياناً بهوى حقيقي، وأحياناً من دون أي متعة على الإطلاق. ولعل هذا ما يفتن أكثر من أي شيء آخر لدى هذا الكاتب - الأفّاق الذي لم يكن كلود روا، كاتب مقدمة الطبعة الفرنسية الأكثر معاصرة لمذكراته، مخطئاً حينما قال عنه «إن كازانوفا يضع نفسه، بشكل طبيعي، في صف الهازئين أكثر مما يضعها في صف الجانحين. ومع هذا يحدث لنا أن نلاحظ ان هذا الأفّاق الذي عاش من دون ايمان أو ضمير، كان كاتباً لا يقاوم وشاهداً رائعاً على عصره... على نفسه وعلى عصره...».
> كازانوفا (1725 - 1798) واسمه الحقيقي جان كازانوفا دي سينيالت، أوحى الى الكثيرين من الموسيقيين والمسرحيين ثم الى السينمائيين في القرن العشرين بعشرات الأعمال الفنية. ولعل أشهر من استوحاه المخرج الايطالي فدريكو فلليني الذي حقق عنه فيلماً متميزاً، عنوانه «كازانوفا - فلليني» مثّل فيه الكندي دونالد ساذرلاند دور المغامر الساخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق