بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 30 يونيو 2014

أشباح الماضي والحاضر تتصارع في العراق

خلا بعض اللحظات المضيئة عن التسامح الديني والفكري التي تركها لنا أمثال الخليفتين، الأموي عمر بن عبد العزيز، والعباسيّ، المأمون، فان التاريخ العربي الاسلامي كان مسرح صراع مأساوي بين الإسلام التقليدي (الذي أخذ يسمّى في الأدبيات الحديثة: السنّة) وشيعة آل البيت (الذين صاروا يدعون بالشيعة)، وكان العراق بؤرة دامية لهذا
الصراع وشهد أبشع ملابساته وتجلياته لأكثر من ألف عام. بدأت المسألة، نظرياً، مع وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وتراكمت أحداثها وأدبياتها جيلاً بعد جيل، مبتدئة بحروب على السلطة، ومع انتهاء الأسباب الأساسية لهذه الحروب مع فناء بني أميّة واندثار الحكم العباسي طوّر الإسلام التقليدي سردية عامة تصالح بين التناقضات السياسية القديمة محتفظاً بمكانة خاصة لآل البيت فيما أحيلت النزاعات القديمة الى أرشيف التاريخ، فلم يعد هناك معنى حقيقي اليوم للانتصار لعليّ أو ابو بكر ما دام الاثنان صارا في ذمّة الله، لكن الإشكالية أن الخلافات السياسية تلك تحوّلت الى بنى دينية ومقدسة صلبة تتغذى على تكرار السرديات القديمة وإعادة إحيائها.
رحل الأمويون والعباسيون الذين كان صراعهم مع العلويين من آل البيت صراعاً على السلطة والتبرير الديني لها، ولكن خطابات التعصب شهدت ازدهاراً خلال غزوات المغول (الذين كانت الخلافات الدينية بين الشيعة والسنة عاملاً استفادوا منه لدخول بغداد وانهاء الحكم العباسي)، ثم مع الصليبيين، وتراجعت ظاهرياً أثناء المواجهة مع الاستعمار الغربي (متراجعة في الفكر العربي التقليدي أمام سردية الصراع الإسلامي ـ المسيحي أو العربي ـ الغربي).
بعد الاستقلالات وتراكم كوارث الدولة العربية «الحديثة» وفشلها المدوي في أسئلة الحداثة والديمقراطية والعلمانية عادت سرديات الصراع الديني للظهور، وقد لحقتها تشوّهات الأيديولوجيات الحديثة وممارسات الاستبداد الجديدة لتأخذ أشكالاً عصابية تجمع مورثات الماضي وهمجية الحاضر.
بتأسيسها فكرة الدولة الإسلامية مجدداً، حاءت الثورة الإيرانية كحدث مرجعي هز الأبنية التقليدية للفكر السياسي الإسلامي، ورغم العداوة الأيديولوجية المفترضة، فقد عززت هذه الثورة آمال حركات الإسلام السياسي السنية، وليس الشيعية فقط، بتحقيق حلمها القديم.
ومن مكر التاريخ أن يقوم فرع تنظيم «القاعدة» المنشقّ في العراق بتسمية نفسه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في تشابه لا يخفى مع «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، أكثر مما هو استعادة لفكرة «الخلافة» الراشدة.
كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية آخر محاولات دولة الأيديولوجيا القومية العربية مواجهة فكر الإسلام السياسي الناهض، كما جسدته إيران الخميني، ومع كارثتي احتلال افغانستان والعراق انفتحت المنطقة أمام تقدم مضطرد لحركات الإسلام السياسي بطبعتيها السنية والشيعية، ليكون التدخّل الأجنبي، مجدداً، الصاعق الذي يفجر التغييرات الأيديولوجية الكبرى في العالم العربي.
في العراق، مهد الجرح الشيعي الكبير الذي مثله مقتل الحسين، تتجمع أشباح التاريخ القديم لتؤجج صراعات حديثة تماماً تتراكب عليها عوامل عالمية (المشروع الأمريكي ـ الأوروبي بمواجهة الروسي ـ الصيني)، وإقليمية قومية وإثنية (فرس، عرب، أكراد، أتراك… الخ)، ودينية (سنة وشيعة).
جاء هجوم الفصائل السنية (مع ارتفاع واضح لرايات «داعش») على الموصل، وفتوى السيستاني معلناً الجهاد الشيعي ضدها، ليفتح العراق على مواجهة مفتوحة بين كبرى الطائفتين الإسلاميتين.
وبدلاً من الثورات العربية التي حلمت بفتح طرق الحرية وهز أركان الاستبداد العربي نستفيق اليوم على سيناريو حرب دموية الانتصار فيها كارثة أكبر من الهزيمة. حرب يمكن أن تدمر المنطقة العربية بأكملها وتجعلها أثراً بعد عين، فماذا سيفعل العرب لمواجهة هذه الكارثة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق