بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

مسلمو ايطاليا بين ضواغط الجذور ومتطلبات الاندماج -حبيب محمد هادي الصدر *


 تشير المعطيات السكانية الاولية في ايطاليا الى ان اعداد المسلمين الايطاليين في الوقت الحاضر يربو على (مليون ونصف) مسلم بينهم نحو (100) الف من اصل ايطالي ليشكلوا الديانة الثانية في البلاد بعد المسيحية وبنسبة اكثر من 2بالمئة من اجمالي السكان في البلاد وهي نسبة مرشحة للتصاعد خلال العقود القادمة وذلك بسبب تزايد وتيرة الهجرة بمستويات مضطردة فضلا عن ان ( 90 بالمئة) من المهاجرين الى ايطاليا هم مسلمون، ناهيكم عن ان معدل الانجاب في ايطاليا لعام 2007   هو (1،2 بالمئة) يقابله معدل متضاعف لعدة مرات في مجتمع المسلمين قد يبلغ (8 بالمئة) الامر الذي سيفضي الى تدني معدل المواليد الايطاليين يناظره سرعة تكاثر المهاجرين المسلمين، وبحلول عام 2025 يؤكد المراقبون المختصون بان ثلث المواليد في دول الاتحاد الاوربي سيكونون مسلمين وهو امر ستنعكس تاثيراته على النسيج الاجتماعي بل سيقلب العديد من المعادلات السياسية والثقافية في ايطاليا واوروبا.
  لقد اولدت ايطاليا واوروبا جيلين على الاقل من المسلمين وان تحرزت الطلائع الاولى من المهاجرين المسلمين من اندفاعاتها باتجاه الاندماج والتاقلم مع البيئة الجديدة بسبب الموروثات القومية واللغوية وضواغط الجذور العقائدية الاسلامية فان الجيل الثاني وربما الثالث قد جسد الوجه الانفتاحي الاندماجي للاسلام باعتباره الدين الذي لايفاضل بين الناس على اسس عرقية او اثنية ، كما لايكتمل ايمان المسلم اساسا الا بالايمان بكل الرسل الذين سبقوا نبينا محمدا (ص) وبكتبهم المقدسة   وهو لم ينتشر بحد السيف كما يزعم      البعض وانما بالكلمة الطيبة والخطاب المقنع والمعاملة الحسنة ولو لم يكن كذلك لما ظلت اليهودية والمسيحية قائمة في كنف المسلمين لغاية يومنا هذا وهو دين يحث على الحوار والقبول بالاخر ويحض على احترام الاخرين والالتزام بقواعدهم. كما ان مسلمي هذا الجيل قد ولدوا وترعرعوا في الحاضنة الايطالية والموا بلغتها وهضموا تقاليدها واستوعبوا اعرافها وهم ينظرون باحترام وتقدير الى الدور الرعوي التنويري للكنيسة الكاثوليكية ومعاضدتها لقضايا المهاجرين الانسانية العادلة. 
  والحالة الاسلامية الايطالية لها ما يميزها عن حالتها في دول اوروبا الاخرى مثل تنوع بلدان الهجرة الاسلامية على عكس الحالة  (التركية الالمانية) والحالة (الجزائرية الفرنسية) فالمغاربة يحوزون على ثلث الحضور الاسلامي في ايطاليا فيما يشكل الثلثين الاخرين خليطاً من الالبان والتونسيين والسنغاليين والمصريين والبنغاليين والباكستانيين والجزائريين والايرانيين والنيجيريين والاتراك والصوماليين واخيرا الايطاليين الاصليين المتحولين من المسيحية الى الاسلام. اما السمة الاخرى للتميز فهي الانتشار الواسع لاماكن العمل والاقامة  على امتداد الجغرافيا الايطالية علاوة على تناثر المساجد والجمعيات الاسلامية وتباعد بعضها عن البعض الاخر ولكون يوم الجمعة هو يوم عمل في ايطاليا فقد اسهم في الحد من تكتل المسلمين مع بعضهم ما فعل وسرع الاندماج بالمحيط الايطالي.
والحضور الاسلامي في ايطاليا ليس وليد العقود القليلة الماضية ــ كما يظن البعض ــ بل تعود بواكيره الى عام (809 م) حيث حكم المسلمون الاغالبة ثم الفاطميون جزيرة (سردينيا) ولغاية عام  (1015 م). فيما بسط القائد العربي المسلم (اسد بن الفرات) سيطرته على جزيرة (صقلية) عام (827م) خلال فترة ولاية الامير (زيادة الله الاغلبي). وفي عام (863م) احكم المسلمون الاغالبة قبضتهم على مدينة (برندزي) الايطالية ثم (نابولي) عام 837 م ثم (كلابريا)  و (تارنتو) وصولا الى ضواحي (روما) عام (846م) في زمن امارة (محمد بن الاغلب). الا انهم انسحبوا منها بعد اخذ الجزية من امرائها. وعندما استطاعت جيوش التحالف المسيحي استرجاع المدن الايطالية عاود المسلمون السيطرة على مدينتي (نابولي) و(جاتيه) عام 934م. كما شهد عام (1481م) محاولات عثمانية للاستيلاء على الجنوب الايطالي. وخــــلال الفتـــــرات المذكورة انتشــــر الاسلام على نحو محدود في صفوف الايطاليين ولكن بعد سقوط المدن بيد قوات التحالف المسيحي تمت تصفية جميــــع المظاهـــــر الاسلامية فيها.            
وفي اعقاب الحرب العالمية  الثانية تقاطرت على ايطاليا  جاليات اسلامية قدمت من المستعمرات الايطالية فضلا عن بعض المهاجرين المسلمين الذين غادروا (اوروبا الشرقية) و(شمال افريقيا) اما في العقدين الاخيرين فقد استقبلت البلاد هجرات مسلمة متنوعة من منطقة الشرق الاوسط وجنوب شرق اسيا فضلا عن الالاف من الطلاب المسلمين الدارسين في الجامعات الايطالية.
    ويتوزع في الوقت الحاضر (700) مركز اسلامي في المقاطعات الايطالية العشرين اقدمها على سبيل المثال (المركز الثقافي الاسلامي في روما) ويعود تاسيسه الى عام 1966م ويضم مسجدا كبيرا وقاعة للمؤتمرات وهو المنظمة الاسلامية الوحيدة التي تحظى بالاعتراف الحكومي القانوني ويدار من قبل مجلس ادارة يضم سفراء الدول الاسلامية المعتمدين لدى كل من روما والفاتيكان ويليه (اتحاد الطلاب المسلمين بايطاليا) الذي تاسس عام 1971 ثم (اتحاد الجاليات والجمعيات الاسلامية في ايطاليا) الذي تاسس عام 199. اما الجمعية الاسلامية التي تقتصر على الايطاليين المتحولين الى الاسلام فهي (الرابطة الدينية الاسلامية في ميلانو) ويراسها ايطالي مسلم هو الشيخ (عبد الواحد بلافيتشيني) فيما يعمل نجله اماما وهي تنشط ثقافيا في تنظيم الندوات والمؤتمرات والدروس وتسوق نفسها على انها تمثل (الاسلام الايطالي المعتدل) وهي تحاول جاهدة للحصول على الاعتراف القانوني بها من قبل السلطات الايطالية. 
  اما بخصوص استجابة المجتمع الايطالي المسيحي لاندماج المسلمين به فتتفاوت مستوياتـه تبعــــا للمواقف الايطاليــة المبدئية من الاسلام نفسه،حيث التشنج الذي يبديه حزب رابطــــة الشمــــال والتوجس والحذر الذي يكتنف توجهات اليمين المسيحي، والايجابية التي تتبناها احزاب اليسار في مفارقة ربما تكون غريبة. فالمسلمون الايطاليون من جانبهم قلقون مما وصفوه بسياسات التضييق التي تمارس بحقهم ابتداء من قانون الهجرة المتعسف المعروف باسم (بوسي / فيني) الذي يضع العراقيل وفترات الانتظار الطويلة للحصول على الاقامة وربطها بعقد العمل بمعنى ان المسلم سيكون اسيرا لاهواء رب العمل فضلا عن التحديدات التي تضعها السلطات المختصة على اذونات بناء المساجد وازدراء الايطاليين للحجاب الاسلامي .
 والحق ... ان هناك اصواتاً ايطالية حكيمة ومتفهمة لمتطلبات التعايش والتنوع القومي والديني، فمثلا صرح وزير الداخلية الايطالي الاسبق (جوليانو اماتو) في مناسبات عدة بان اله المسيحي واله المسلم انما هو اله واحد وهو لا يمكنه القبول بالظلم والعنف لذا فهو يرفض التمييز تحت اية ذريعة او شعار. ويرى (اماتو) ان الحل يكمن في الحوار والتفاهم وتنظيم اوضاع المسلمين وفقا لقانون جديد وليس وفقا لقانون العبادات الصادر في ثلاثينيات القرن الماضي، كما اقترحت المستشارة اليسارية لدى محافظة (نابولي) (ايزادورا دايمو) بناء مسجد كبير في المدينة. فيما دعا الحاخام الاكبر في روما (ريكاردو دي سيني) مسلمي ايطاليا  الى تطبيق النموذج اليهودي في الاندماج مناشدا الوعاظ المسلمين الى استخدام اللغة الايطالية في خطبهم مطالبا اياهم بالتحلي بالصبر وتوحيد تمثيلهم امام الدولة الايطالية . اما وزير الخارجية الاسبق (فراتيني) فقد دعا الى اعتبار الجاليات الاسلامية بمثابة حليف وثيق للايطاليين منوها بامكانية بناء اسلام اوروبي خلال العقود القادمة وان تنصب الجهود لبلورة نموذج اندماجي ناجح. اما رجل الاعمال المسيحي المصري (نجيب ساويرس) صاحب شركة (ويند) للاتصالات فقد ركز على اهمية التواصل بين الثقافتين الشرقية والغربية معولا على دور المسيحيين العرب في عملية التقريب الذي ما زال دون الطموح.
  ويعلل البعض التردد الرسمي الايطالي في التعاطي المفتوح مع المسلمين هو تشتت الصوت الاسلامي وتعدد صور الاسلام من زاوية النظر الايطالية حيث المذاهب الاسلامية المتنوعة وحيث الاسلام السلفي المتشدد والاسلام الصوفي والاسلام التقليدي. ومهما يكن من امر فان المتغيرات الديمغرافية الكبيرة المتوقع حدوثها في ايطاليا واوروبا عموما في المستقبل المتوسط لصالح المسلمين ستدفع الحكومات الاوروبية لتعديل سياساتها تجاههم. وسيصبح من اولى اهتمامات كل رئيس دولة اوروبية كسب اصوات الجاليات المسلمة لضمان الفوز في الانتخابات النيابية والرئاسية. 
   لذا ولكي يسود الاطمئنــــان لــدى الطرفيــــن يتعيــــن عليهمـــا الاعتراف بالقيم الاساسيـــة للقوانين الايطالية المنظمة للتعايش المشترك والحرص علـــــى تطبيقهــــا ومنهـــــا احتــــرام الشعائر الاسلامية وتقديم المساعدات والتسهيلات نفسها المقدمة للمؤسسات غير الاسلامية.  فالمواطنون المسلمون الايطاليون لايشعرون بتناقض جوهري بين هويتهم الاوروبية وجذورهم الاسلامية فقد اثبتت الوقائع على انهم مواطنون صالحون مخلصون لمجتمعاتهم الجديدة. وعلى اوروبا ان تقنع المسلمين بان تقدمها الفكري والمادي لن يفضي الى المس بمعتقداتهم وثوابتهم خصوصا في اعقاب ماسي الايات الشيطانية وحرق القرآن الكريم والصور المسيئة للرسول (ص) ومجازر البوسنة وكوسوفو والدعم الغربي المستمر لاسرائيل على حساب قضايا العرب والمسلمين وشن الحرب على الشعوب الاسلامية تحت 
ذرائع شتى ثم ما يروج له حاليا من مخطط مشبوه يرافقه (شحن طائفي) ممنهج 
لتقسيم المنطقة العربية واذكاء الصراعات على اسس عرقية او طائفية. وعلى اوروبا ان تناى عن الاحكام السلبية المسبقة والتفسيرات الخاطئة عن الاسلام وان لا يحصر الاعلام الغربي اهتمامه في تضخيم ممارسات الفئات الضالة المتطرفة من المسلمين ثم لا يعير بدائلها المتعددة من النماذج المشرفة لعموم المسلمين الذي يجسدون اخلاقيات الاسلام الحقيقي وسماحته اي اهتمام.  فايطاليا مدعوة لان تتعامل مع المليار والربع من المسلمين في هذا العالم الفسيح باعتبار انتمائهم الى دين سماوي له جذور مشتركة مع اليهودية والمسيحية ويستحيل ان تنجح اوروبا فيما تتخذه من سياسات بخصوص الشعوب الاسلامية من دون فهم واقعي موضوعي لمعتقداتها ومشاكلها، فالحوار الرصين والتعاون المثمر هو الكفيل بتحقيق المصالح المتبادلة لضمان حياة افضل للجميع وللاجيال القادمة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق