بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 29 يوليو 2013

هنري أليغ وثورة التحرير الجزائرية رحيل صاحب كتاب 'القضية' الذي كشف فضائح التعذيب الفرنسية:



باريس ـ من الطيب ولد العروسي: توفي المناضل والصحافي هنري علاق في باريس عن عمر يناهز 81 سنة، وهو معروف بمواقفه الشجاعة والمنددة بالاستعمار قولا وعملا، وهو من المثقفين الفرنسيين الذين ساندوا ثورة التحرير الجزائرية مثل المناضل التونسي حسين تريكي، الذي أصبح عضوا فيها، بل ممثلا لها في أمريكا اللاتينية، والشهيد فرانز فانون الذي جاءها من المارتنيك ليصبح واحدا من شهدائها، والشهيد موريس أودان الذي أعطاها حياته هو الآخر، وهو في عمر الزهور (22 سنة)، هذا علاوة على العريضة التي وقعها مئة وواحد وعشرون أديبا وكاتبا من فرنسا لتأييد الشباب في رفض قانون التجنيد، دون أن ننسى المناضل الصامد هنري أليغ الذي نحاول أن نتطرق إلى المحن والمآسي التي عاشها في سجون الاستعمار الفرنسي في الجزائر نتيجة مساندته لهذه الثورة المجيدة، وفاضحا في شهادته التعذيب في تلك السجون التي كانت تشرف عليها فرقة من المظليين الفرنسيين المعروفين بقسوتهم وفظاعتهم.
لقد آثار كتاب القضية أو السؤال، لهذا المناضل لدى صدوره كثيرا من النقاش والاهتمام الإعلامي والأكاديمي في الغرب، لأنه وصف ضمن أدب السجون والتعذيب * من منطلق ‘الأنا’ الراوية والمشاركة في الأحداث، أو كبطلة له، لأنه يبين مقاومته للعذاب والألم وتحديه للجلادين مركزا على شجاعته وبسالته ورفضه للاستسلام، كما أكد على فضح الاستعمار وأفانينه المشينة.
يعد كتاب ‘ القضية ‘ La question من بين الشهادات التي ساعدت على كشف المسكوت عنه فيما يخص التعذيب الذي كانت تمارسه مجموعة من الضباط الفرنسيين تجاه المناضلين الجزائريين، أو المساندين الأوروبيين وغيرهم لثورة التحرير الجزائرية.
كتب المناضل هنري أليغ ‘تجربته’ التي عاشها في سجون المستعمر الفرنسي، بداية من شهرحزيران/ جوان 1957، بالدم والألم والعذاب، وذلك بعد ملاحقة أصحاب جميع الأقلام التي كتبت في جريدة ‘الجزائر الجمهورية’ التي كان يشرف عليها. فعاش أليغ متخفياً مع المجاهدين الجزائريين إلى أن ألقى عليه القبض جنود مظليون تابعون للفرقة المظلية العاشرة les parachutistes de la 10e D. P. يوم 12 حزيران/ جوان 1957 في منزل صديقه موريس أودين Maurice Audin الذي اعتِقل ومات تحت التعذيب في ظروف غامضة، ولا يعرف مكان لجثته، ولا كيف تمت وفاته وأين؟ كل ما نعرف كما يقول هنري أليغ هو أنه ‘مات مثل الكثير من المناضلين في ظروف غامضة تحت التعذيب..’1 . وهدف المستعمر هو تخويف المناضلين الأوروبيين لكي يمتنعوا عن تأييدهم للثورة الجزائرية، إذ يقدم الكاتب رقما يقدره بأكثر ‘من ثلاثة آلاف شهيد’ 2 لا يعرف أين دفنوا، ماتوا إما تحت التعذيب، أو رميا من الطائرات، أو تم وضعهم في إطار إسمنتي قذف بهم في أعماق البحار لكي لا ترى أجسادهم.
صدر كتاب ‘القضية’ أو ‘السؤال’ شهر شباط / فيفري عام 1958، يقع في 111 صفحة من الحجم المتوسط، حيث كان هنري أليغ يكتب يوميا عدة صفحات بكثير من الخوف، وبعيدا عن أنظار الحراس، بعد أن لقي تشجيعا من قبل مجموعة من الأصدقاء وبعض محاميه الذين حرضوه على فضح الأشياء، وعندما أتم المسودة أرسلها إلى منشورات ‘مينوي’ Minuit، التي كان يديرها السيد جيروم ليندون J’r'me LINDON الذي عرف بشجاعته وبرغبته في نشر نصوص صادقة منطلقة من الواقع. ورغم الخوف وتهديد الإدارة الاستعمارية له ولكل من يتطرق إلى قضايا مثل هذه، وهي تمس ضباطا ومسؤولين مهمين في الدولة، كانت الإدارة تهدد كل من يقدم على أعمال كهذه بغلق مؤسساتهم وأحيانا يودع بهم في السجون، لكن مدير هذه الدار تحدى كل ذلك واختار نشر الكتاب، إذ بيع منه خلال الأسابيع الأولى أكثر من ستين ألف نسخة، إلا أن الإدارة منعته، فكان الناس يصورونه ويرسلونه لأصدقائهم أو ينصحون الناس بقراءته. كما أصدرته جريدة ‘لو كانارد أنشيني’ في أحد أعدادها ’3. ولكن بخط صغير لا يقرأ بسهولة، مما أجبر الناس أن يستعينوا بعدسات مكبرة، كما أعاد طباعته ناشر سويسري، الشيء الذي يبين بأن الكتاب جذب أنظار الرأي العام الفرنسي والعالمي، وهو كتاب لم يكن محصورا في المناضلين، بل كانت رغبة المؤلف هو أن يصل إلى أكبر شريحة اجتماعية. حيث يصرح قائلا ‘ها أنا كتبتُ حكايتي. ولم يسبق لي أبداً أن كتبتُ بهذه الصعوبة وبهذا الجهد الجهيد. ربما لأن الألم ما زال حاراً في ذاكرتي، أو ربما لأن هذا الكابوس الذي عشت أهواله والذي يعيشه في هذه اللحظة التي أكتب فيها أشخاص آخرون، وسيعيشه آخرون حتماً ما لم تتوقف هذه الحرب الكريهة. كان عليّ أن أقول كل ما أعرف. وأنا مدين بهذه الكتابة إلى موريس أودان Maurice Audin’4 .
الجدير بالذكر أن موريس أودان كان رفيق أليغ وصديقه وزميله الذي اعتُقله الجيش يقول فيه ‘إنني أكتب له وإلى كل الذين أُهينوا وعُذّبوا وهم يواصلون الكفاح بكل شجاعة وبطولة. مدين به إلى كل الذين يموتون كل يوم في سبيل حرية بلدهم’ 5. ثم يواصل قائلا: ‘كتبت حكايتي بعد أربعة أشهر من تعذيبي على يد المظليين في الزنزانة رقم 72 في سجن بربروس سجن الجزائر المدني’ 6. 
كان لهذا الكتاب أثر كبير، استجاب له الكثير من المثقفين وعلى رأسهم جان بول سارتر ومورياك وأندريه مالرو، وآخرون راحوا ينددون بالقمع الذي يمارس ضد المناضلين الجزائريين في السجون الاستعمارية، كما راحوا يكتبون وينظمون لقاءات حول الموضوع، فأرسلوا وثيقة إلى رئيس الجمهورية في ذلك الوقت وقّع عليها مجموعة هامة من المثقفين الفرنسيين.
كان هنري أليغ مدير تحرير جريدة ‘الجزائر الجمهورية’ لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري، وكانت معروفة بمواقفها بالتنديد وفضح الاستعمار، كما كانت تفتح صفحاتها إلى كل مؤيد لاستقلال الجزائر، مما أزعج الإدارة الفرنسية التي ألقت القبض على الكثير من مسؤولي الجريدة، إبان ‘معركة الجزائر العاصمة ‘ la bataille dAlger، التي يؤكد الكاتب بأن الاستعمار استعملها وهولها للقضاء على المناضلين’ 7، وهو يرى بأنها لم تكن ‘معركة’ كما أطلق عليها الاستعمار الذي أعطاها هذه العبارة تعسّفا، بل يرى بأنها ‘كانت خطة جهنمية استعملها بعض الضباط لكي يوهموا الفرنسيين بأن هناك حربا بينهم وبين سكان العاصمة، استعملوها للقضاء على الكثير من الجزائريين شيوخا ونساء وأطفالا ومناضلين ’8، حتى أن القمع كان ‘سيد الموقف’ في العاصمة وأحوازها، مما دفع بالكثير من المناضلين بالتنديد وفضح هذه الجريمة المنظمة، كما أعطى لهؤلاء الضباط إمكانية شد الخناق أكثر على الجزائريين بالأساس، حيث تم سجن الآلاف من بينهم الكثير من الأوروبيين المساندين للثورة، وكان المناضل أليغ من ضمن هؤلاء الذين ناضلوا من أجل فضح ممارسات الإدارة الاستعمارية، فقبض عليه وأودع السجن، أو كما يقول في ‘مصنع التعذيب’ الكائن بمنطقة الأبيار. إذ أذاقوهم الأذى الممنهج، ماداموا قد رفضوا التعاون مع المستعمر وأذنابه، هذا ما يؤكده الكاتب حينما طلب منه المظلي شاربونيه *charbonnier قائلا له: ‘أنت صحافي؟ لذا يجب أن تفهم بأننا نريد أن نعرف كل شيء أو أن تكون على دراية، يجب أن تعلمنا’9.
بعد أن القي القبض على أليغ، راحت مجموعة من الضباط – الجلادين- تسأله لكي تعرف أين قضى أيامه بعد أن هرب من سكنه، ودخل حياة السرية، وعن أولئك الذين ساعدوه، فكان يرفض البوح أول التعامل معهم، رغم أنهم كانوا يهددونه حتى بتعذيب زوجته ‘جيلبيرت’ وأولاده إذ ما واصل في تعنته، ‘ هل تفكر بأن أولادك محميون لأنهم في فرنسا، إننا نستطيع المجيء بهم متى أردنا’ 10.
كان يعرف بأنهم قادرون على فعل الشر، كما فعلوا مع زوجات بعض المناضلين، لكنه أصر على ألا يجيب عن أسئلتهم، فما كان كل من أرلان *Erlin وشاربونيه إلى أن أعطيا أوامرهما بتعذيبه، إذ يقول ‘ كان شاربونييه يعذبني بالكهرباء رافعا صوته مرددا نفس الكلام أين قضيت ليلتك قبل أن يتم توقيفك؟’، كما كانوا يأخذون ‘وقودا يشعلونها ويضعونها على صدري وأطراف أصابع رجلي، ومن كثرة الألم أصبحت لا أحس مما أزعجهم كثيرا ‘ 11. 
يصف المؤلف فترات التعذيب بقوله ‘لوّح جاكيه المبتسم دائماً أمام عيني بالمقابس الموجودة في نهاية المساري الكهربائية. مقابس صغيرة من المعدن اللامع، ومزركشة. مقابس ‘تماسيح’، يقول عمال الخطوط الهاتفية الذين يستخدمونها. ثبّت أحدها على صيوان أذني اليمنى، والآخر في أصبع الجانب نفسه. فجأةً، قفزت في أصفادي وصرخت بملء صوتي’ ثم يواصل واصفا هذا الجحيم ‘ كان شاربونييه قد أرسل في جسدي أول شحنةٍ كهربائية. كانت شرارةٌ طويلة قد صدرت قرب أذني وأحسست بقلبي يقفز في صدري. تلويت صارخاً وتصلبت حتى جرحت نفسي، في حين كانت الذبذبات الكهربائية تتوالى دون توقف بإيعاز من شاربونييه، والمولّد المغناطيسي في يده. بالإيقاع نفسه، كان يكرر سؤالاً واحداً وهو يوقّع مقاطع الكلمات ‘أين كنت تقيم؟’ بين هزتين، كنت أستدير نحوه وأقول ‘أنت مخطئ، سوف تندم!’ ثار شاربونييه، فأدار معدّلة المولد إلى الحد الأقصى قائلاً ‘في كل مرةٍ تقدم لي المواعظ، سأرسل لك دفقة!’. لكن كل هذا لم يشبع وحشيتهم لأن أليغ واصل مؤكدا ‘وفي حين واصلت الصراخ، قال لجاكيه ‘يا إلهي، كم هو صخّاب! ضع كمامةً في فمه!’ فكوّر يد جاكيه قميصي ثم حشره في فمي وبدأت المعاناة الرهيبة. كنت أضغط على القماش بكل قواي وأجد في ذلك ما يشبه الراحة’ 12.
كما منع من الأكل والشرب، ووعدوه بإطالة مدة التعذيب وابتكار ‘فنيات’ أخرى، وضعوا له الكهرباء داخل فمه، حتى جف ريقه، وحينما عرفوا بأنه وصل إلى طريقة لا تحتمل من العطش، أعطوه كمية ماء كانت شديدة الملوحة. وهكذا كانت حلقات العذاب تتواصل لا تتشابه، لأنهم جربوا معه كل الإمكانيات من التجويع والعطش والإهانة ، ناهيك عن موجات الكهرباء، غير أنه لم يقل أي كلمة، حتى أن الجنرال ‘ماسو’ MASSU * المعروف زاره في سجنه واقترح عليه أن يتكلم، ويجيب عن أسئلته، وإلا فإنه سيزيده عذابا، لكنه بقي صامتا صادما متحديا إياهم، فحولوه إلى مكان آخر ووضعوه بالقرب من خزانة، وراحوا يعطونه قليلا من الماء معترفين بأنهم تجاوزوا حدودهم في تعذيبه، حتى أن بعض الجنود اغتاظوا لحالته، فنصحوه بالكلام، ‘وأحدهم اعترف له بشجاعته ومواصلة الصمت وعدم فضح أصدقائه، طلبت منه أليغ أي يوم نحن؟ الجمعة أجاب الجندي، إنني في التعذيب المتواصل دون توقف منذ يوم الأربعاء’ 13، ثم يتكلم عن الأصوات التي كانت تصله من جراء التعذيب، حتى خيّل إليه أن يسمع ‘صوت زوجته جيلبيرت، ووصف الحالة التي كانت تغزو المكان بوحشيتها ومأساتها، دون أي رأفة أو إنسانية.
يقول أليغ ‘لا أنسى ذات ليلة عندما جاءني الضابط شاربونييه وأمرني بتحضير نفسي ثم طلب مني موهما أياي، قائلا ‘احضروا أودان وحجاجي، لنأخذ كل واحد منهم على حدة’ 13 لكنه كان ثابتا مقتنعا بأنه مستعد لدفع الغالي والنفيس من أجل مثله ومبادئه ومن أجل رفاقه في النضال.
يرى أليغ بأن الجلادين لم تكن لهم قلوب، أو أنها ماتت، لأنهم أصبحوا يتلذذون بما يقومون به، أي أصبحوا ساديين حقيقيين، وأصبح التعذيب ‘مهنتهم اليومية’. وحتى طبيب السجن راح يوهمه بإنسانيته، وذلك بإقناعه بالبوح وإلا فإنهم يستعملون معه ‘التعذيب العلمي’، الذي كان يشرف عليه هذا الطبيب. أعطاه جرعة من المخدرات على شكل دواء، غير أن هنري أليغ وضعها تحت لسانه موهما الطبيب بأنه تناول الجرعة التي سلمت له، ثم بصقها، فراح الطبيب يختبر إدراكه رويدا رويدا، إذ طرح عليه مجموعة من الأسئلة حتى يعرف أين قضى أيامه الأخيرة قبل أن يتم إيقافه، وكانت أسئلته متمحورة حول مكان وجود الرفاق يقول ‘رحت أجيبه بثقة محاولا التحدث بطمأنينة وبضبط النفس، فكان الضابط يعطيه عنوانا غلطا لكي يوهمه بأنه يعرف مكان تواجدهم منتظرا من أليغ أن يصحح له غلطته، لكنه عرف اللعبة رغم كمية ‘المخدرات’ التي وضعوها هذه المرة في جسده عبر محقنة’. هذه المخدرات التي أثّرت في نفسيته حتى بدأ يفكر في الانتحار، لكنه استعاد وعيه وعرف أنه لو يقدم على ذلك، فهو سيحقق أمنية جلاديه. وفي الغد طرح عليه أحد الضباط السؤال التالي:
‘هل تعذبت خلال المقاومة بنفس الحدة، فرد عليه، لا إنها المرة الأولى، فأجابه جميل، ثم قال كعارف، إنك قوي’ 14.
كما جاءه عسكري آخر وقال له: ‘لقد حضرت كل فترة تعذيبك، والدي حدثني عن شجاعة الشيوعيين أثناء المقاومة، إنهم يفضلون الموت، لكنهم لا يصرحون بشيء، وهذا موقف بطولي ورائع′ 15.
يقر المؤلف بأن مكان تواجده في حقيقة الأمر ليس مركزا للتعذيب فحسب، بل كان بمثابة مدرسة لتعويد وتعليم الشباب الفرنسي على طرق تعذيب الجزائريين.
من ضمن النقاشات التي سجلها في كتابه مع الضباط الذين كانوا يستعملون معه كل الطرق للوصول إلى غايتهم، حواره مع أحدهم الذي أعلن له بكل صراحة عن رغبته في أن تنتقل هذه الحرب إلى بلدان أخرى كتونس والمغرب، لأنه نادم على أن الحملة الفرنسية بقيادة نابليون لم تؤد إلى انفلات عام، حيث أظهر حقده الاستعماري الدفين للجزائريين، الذين كان هنري أليغ واحدا منهم لأنه انتسب إلى قضيتهم والتحق بالجزائر قادما من باريس سنة 1939. تزوج من المناضلة جيلبيرت عام 1946، وتقلد رئاسة تحرير جريدة ‘الجزائر الجمهورية، حتى قبض عليه. كانت رغبة هذا الضابط هو التخلص من أليغ، كونه هدده بذبحه بسكينة ذات ليلة. وكانت كلماته تتجسد في الواقع العملي، حينما كان يعذب المواطنين الجزائريين الذين كانوا يأتون بهم إلى السجن وهم في لباس النوم، أو بدون أحذية، إذ كانت قلوب المعذبين مثل الحجر الأصم، وأصبحوا بدون إنسانية، وكأنهم يتلذذون بتعذيب الجزائريين، ‘كما كانوا يظهرون احتقارهم بتشديد العذاب على المسلمين وبإظهار عنصريتهم تجاههم’ وكان المسلمون حينما يلتقون بأليغ في السجن يحيونه لأنهم كانوا قد التقوه في المظاهرات التي كانت تدعو إليها الجريدة، أو قرؤوا كتاباته، ‘كنت أقرأ في عيونهم تضامنهم معي، وصداقة تدفعني بالشعور بالافتخار كوني أوروبيا وقف بجانبهم’ 16.
قضى أليغ في ‘فيلا سوسيني’ بالأبيار شهرا تقريباً ، حيث ذاق أصناف العذاب لكي ينتزع منه المحققون معلومات عن الجزائريين المجاهدين وبخاصة عن الفرنسيين المتعاونين معهم وذلك تحت تأثير مادة كانت تُحقن في ضلوعه، هي الـ penthotal* .
نُقِل بعد إلى سجن لودي Lodi بمدينة المدية، حيث بقي شهراً آخر، ومنها إلى سجن بربروس، وهو سجن الجزائر المدني، وحكم عليه بعشر سنين سجنا، لأنه حسب الإدارة الفرنسية كان يشكل خطرا ‘على أمن الدولة’. ثم نقل إلى سجن بمدينة ‘رين’ الفرنسية Renne وذات يوم وهم يأخذونه إلى مستشفى المدينة، انتهز فرصة اشتغال حراسه وفر من المستشفى بمساعدة من بعض رفاقه، وذهب إلى تشيكوسلوفاكيا ثم عاد إلى الجزائر بعد اتفاقية إيفيان، وغادرها بعد الانقلاب الذي قام به بومدين، ليجد نفسه مرة أخرى في باريس.
يعرف الكاتب سجن بربروس بأنه معتقل كان يُساق إليه الجزائريون لمجرد وشاية كاذبة أو تهمة ملفقة أو قرار إداري لا يستند إلى أي إثبات .
يصف هنري أليغ هذا السجن قائلا ‘في هذا السجن الذي يعجّ بالسجناء، كل زنزانة مترعة بالألم. وإن أردتُ أن أروي ما حصل لي شخصياً من أعمال التعذيب، فإني سأشعر بالخجل من نفسي. ففي الطابق الأرضي من السجن، قسم المحكومين عليهم بالإعدام وكان عددهم ثمانين سجيناً مغلولي الأرجل بالحديد. كنا نعيش على وتيرة حركاتهم وسكناتهم. لم يكن فيهم واحد لا يعود مساءً إلى الحصيرة التي يفترشها لينام وهو يتصور كيف سيطلع عليه صبح رهيب أو يحلم بكل ما لديه من قوة الأمل ألا يحصل له أي مكروه. ومع ذلك كانت تتصاعد من الطابق الأرضي بالذات كل يوم أغنيات رائعة تنبض بها حناجر هؤلاء الأبطال الذين هم قلب الشعب الجزائري المكافح من أجل حريته17.
يشير الكاتب إلى تلك الحالة التي كانت تصيب السجناء لحظة صعود أحد المناضلين إلى منصة الإعدام، وهم يرددون نشيد ‘من جبالنا’:

من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا 
من جبالنا طلع صوت الأحرار 
ينادينا للاستقلال 
لاستقلال وطننا
تضحيتنا للوطن
خير من الحياة 
أضحي بحياتي 
وبمالي عليك 
يا بلادي يا بلادي .
يعتبر كتاب هنري أليغ أحد المفاتيح المهمة التي ساهمت في التعريف بحرب التحرير الجزائرية، إذ أنه حينما صدر كان مؤلفه يقبع في السجون الاستعمارية الفرنسية، مما دفع بجان بول سارتر في مقالة له بالقول ‘الهدوء هو نتيجة شجاعة الضحية، تواضعها ووضوحها تهيئنا لكشف الغطاء، أليغ ينتزع من سبات الليل العذاب الذي كان يخفيه’ 18 .
والحقيقة التي كان يريدها الكاتب هي فضح هذه المعاملات الوحشية التي كانت بنت قرون أخرى، وأنه يرى بأن فرنسا كانت تتلقى على وجهها ما لم تجرأ على الاعتراف به، وكان أليغ يأمل أنه ‘من الضروري ومن المفيد أن نكافح من أجل التعريف بما تعنيه هذه الحرب، أصلها، جذورها، أسباب التكالب عليها من مختلف الحكومات الفرنسية المتعاقبة والتي جعلتها ترفض الاعتراف بحقوق الجزائريين’ 19.
ثم يواصل قائلا ‘وعليه نساعد الشباب الذين تركوا قصدا في الجهل على معرفة هذا الماضي القريب، وأخذ الدروس منه للمستقبل، مستقبل مليء بالتهديدات والعواصف التي ينبغي مواجهتها، لأنه لا يستبعد أن تبرز نزاعات أخرى، وهي كثيرة الآن، هنا أو هناك في إحدى أرجاء العالم.’ 20.
ولعل أحسن شهادة نختم بها هذه المقالة، هي شهادة رفيقه المناضل كريستيان بوينو الذي قاسمه النضال والزنزانة والتعذيب ، إذ يؤكد ‘ فقد تعرفت على هونري أليغ (…) إنه صاحب بصيرة ووعي جمع بين الشجاعة والتواضع. يملك مناقب نادرة، ولكنها من مقتضيات انتمائه إلى ما يسميه هو نفسه، فئة ‘النعال السوداء’ أي الأوروبيين الذين اختاروا أن يساندوا الجزائريين في كفاحهم في سبيل كرامتهم واستقلالهم، مهما كانت النتائج.’ 21. ثم يواصل ‘ شرع في العمل (أي في تأليف كتابه) وأخذ يكتب بدون توقف. في مكان معزول من الزنزانة، كان يكتب عدة صفحات في اليوم، ذلك الكتاب الذي لعب دورا هاما في الكفاح الوطني. ‘ 22.
نقل هذا الكتاب إلى عدة لغات، من بينها اللغة العربية، حيث تمت ترجمته من طرف كل من الأستاذة عايدة إدريس، ووالدها الدكتور سهيل إدريس تحت عنوان ‘الجلادون أو الاستجواب’ ، صدر في بيروت، عن منشورات دار الآداب، سنة 1960، أي بفترة وجيزة بعد نشره باللغة الفرنسية، كما حوّل إلى مسرحية، وهناك الكثير من الكتابات التي سارت على منواله يحكي أصحابها شهاداتهم ومعايشتهم في جحيم العذاب الذي كانت تديره مجموعة من الضباط الفرنسيين على مستوى عال من الحكومة الفرنسية. هذه الشهادات تبين وقوف أصحابها مع ثورة التحرير الجزائرية، كما تروي بطولات إنسانية رائعة، هذه الكتابات كانت بمثابة سلاح قام بها أصحابها بتعرية الواقع، يفضح المسكوت عنه، وبالتالي بكشف الممارسات غير الإنسانية المخالفة تماما لما يروق للفرنسيين ترداده، احترام حقوق الإنسان، والدفاع عن كرامته، هذه الشهادات تثبت العكس تماما لأنها تكشف عن معاملة الإنسان بوحشية تنتسب إلى قرون خلت، وهذا رقم القرارات التي اتخذت والتي تنص على حرية الإنسان، وهذه المعاملات ما زالت متواصلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي على مسمع ومرأى من العالم، وكأن العالم لا يريد أخذ دروس من هذا الماضي غير المشرّف للإنسانية جمعاء. 
هكذا بعد صراع مع المرض يرحل المناضل هنري علاق تاركا وراءه مجموعة من الكتب التي تروي تجربته وتنديده بالعذاب، ومساندته للقضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. كما تتطرق إلى فضح المعاملات الاستعمارية وتوق الشعوب إلى الانعتاق والحرية والاستقلال، وبعد استقراره في باريس ، انخرط هنري علاق في الحزب الشيوعي الفرنسي وبقي مناضلا فيه حتى وفاته، كما عمل صحافيا بجريدة ‘لومانيتي’ ‘الإنسانية) لسان هذا الحزب من 1966الى غاية 1980. .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق