بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 يوليو 2013

تخيل التعايش معاً إبراهيم غرايبة -


ربما تصلح الأفكار والتجارب التي تشكلت في فهم وبناء التعايش في الدول والمجتمعات التي شهدت صراعاً داخلياً عنيفاً، مثل الهوتو والتوتسي، والصرب والألبان والبوسنة والكروات، للاقتباس والمقارنة في النظر إلى الدول والمجتمعات في الربيع العربي.
لقد أظهرت الأحداث حالة معقدة لن تحلها الانتخابات، ولكنها تحتاج إلى تسويات إبداعية، تبدأ بالتخيل (ربما)، تخيل التعايش، وإعادة بناء التوازن الاجتماعي على أساس يحقق العدل والرضا لجميع الطبقات والفئات، ورد الاعتبار للمحركات الأساسية للصراع والتي لا تكاد تعيها الطبقات أو أنها كما يقول إدوارد هيلموت كار تعيها ولا تريد أن تعترف بها.
تبدو مصر بطبيعة الحال هي مناسبة المقال، ولكنها حال مشتركة في معظم إن لم يكن جميع الدول العربية، حيث يتشكل انقسام قائم على الشعور بالظلم والتهميش يقابله خوف من الانتقام أو تمسك مصيري بالمكتسبات، ثم يدعم هذا الانقسام الاجتماعي بخطاب ديني وأيديولوجي وطائفي يزيده تماسكاً وصلابة، يشبه صب النحاس على الحديد فيشكلان معا مزيجاً أكثر قوة، وبشخصية ورواية جديدة أكثر تعقيداً.
في مصر يبدو الانقسام بين «عسكر وفلول وإخوان»، ولكنه في جوهره كفاح المهمشين من المجتمعات والطبقات للمشاركة العادلة مع فئات وطبقات استحوذت على الفرص والموارد والتأثير لأكثر من ستين عاماً، وتمنح جماعات الإسلام السياسي لهذا الشعور والصراع موارد هائلة من التنظيم والدوافع والتعبئة والحشد والحوافز في الدنيا والآخرة، ويمكن ملاحظة هذا المشهد وعلاقاته الملتبسة مكرراً بتطابق في كل الدول التي تشهد صراعاً وحراكاً سياسياً واجتماعياً، تحالف طالبان بخطابها القتالي والديني مع البشتون الذين يشعرون بالغبن في باكستان وأفغانستان، وتحالف القاعدة مع العرب والطوارق الذين يشعرون بالخوف والتهديد من الزنوج في مالي، وتحالف «الإخوان» مع الأردنيين من أصل فلسطيني، وهم يشعرون بالتمييز وانتقاص الحقوق، والقاعدة مع العرب السنّة في العراق والذين يشعرون بالتهديد والغبن، والأحزاب والجماعات والحوزات الشيعية تمنح المجتمعات والطوائف الشيعية في العراق واليمن والخليج ولبنان شعوراً بالهوية والحماية.
هل يمكن تخيل التعايش والانتقال إلى مرحلة جديدة وقواعد جديدة متفق عليها لإعادة تنظيم الحياة السياسية والفرص والموارد؟ إن الاحتكام إلى الانتخابات من غير تسويات وتفاهمات مسبقة يكرس الصراع والانقسام ويزيده قوة واشتعالاً، وستضيف الصناديق محركاً جديداً للحروب الأهلية!
تجب أولاً معاينة المخاوف والمصالح الحقيقية ومواجهتها بمقدار كبير من الوضوح والصراحة وعدم تغليفها بأفكار ومبادئ ومثل لا علاقة حقيقية لها بالمشكلة، المكتسبات المهددة بالضياع، وأسلوب الحياة والحريات الفردية والاجتماعية المهددة، والشعور بالظلم والتهميش، والشعور بالتميز والتفوق، وتنظيم الفرص والموارد والإنفاق العام، ومخاوف الأقليات، التعددية والتنوع في الثقافة والدين والعرق واللغة.
إن أسوأ ما يمكن أن تصاب به التسويات والجدالات بين الطبقات والفئات هو مواجهتها بخطاب الوحدة والأخوة والتسامح والتضحية لأجل الوطن، فهذه المثل على جمالها وضرورتها ليست هي الحل، ولكنه في تنظيم عادل ومرضٍ للمصالح، وهذا الخطاب المثالي أو الأيديولوجي من دون التفاهم يفيد الاستبداد والفساد أكثر من الإصلاح، فمصالح الناس والجماعات هي ديبلوماسية إلهية تنشئ السلام والتعاون والتقدم، ثم بعد تأسيس هذه المصالح والاعتراف بها يضاف إليه مقدار من الجمال والمثل.

ما يجري بالفعل هو إغراق في الخطاب للمثل الوطنية والدينية والأخلاقية، وممارسة انتهازية أو واقعية كاسحة ومهيمنة متقبلة بصمت ومتواطأ عليها في ظل مبادئ وأفكار لا يطبقها أحد ولا تصلح وحدها ابتداء لحل وتنظيم مشكلات الدولة والمجتمعات وتحدياتها وفرصها، ثم نمضي حياتنا نتجادل حولها ونتظاهر بأننا نقاتل لأجلها، ونرفض الاستماع إلى بعضنا بعضاً، وأسوأ من ذلك فإن الاقتراب من الهواجس والمشكلات الحقيقية يتحول إلى إثم وخيانة... و «فكّني بقى!»
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق