الثلثاء 27/5/2014: ثقافة النقد في مصر
المثقفون المصريون ناهضوا في الظروف الصعبة هجمة الإخوان المسلمين على الثقافة المصرية ومحاولة طمس تجاربها في التحديث والحرية وتكوين الهوية الوطنية، وهم الآن يبايعون المشير عبدالفتاح السيسي رئيساً للجمهورية وفاء لوقفته الشجاعة وإلحاقه الهزيمة بحكم الإخوان ورئيسهم محمد مرسي، بتفويض ما يزيد عن 30 مليوناً في 30 حزيران (يونيو) شكلوا ثورة مكملة لثورة 25 كانون الثاني (يناير).
غالبية المثقفين أيدت السيسي في انتخابات الرئاسة وأقلية أيدت حمدين صباحي، من باب حفظ حد أدنى من مظهر الديموقراطية أو مناهضة لحكم العسكر المتواصل منذ 23 تموز (يوليو) 1952.
إنها مواقف سياسية عابرة لا تعصم المثقف المصري من واجبه اليومي تجاه قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وتجاه المشاركة في نهضة وطنية تحتاجها مصر أكثر من أي وقت مضى، بعد أن أدخلها حسني مبارك في الشلل وبعد أن خطف «الإخوان المسلمون» الثورة إلى بدائية لا علاقة لها بمصالح الشعب ولا ببرنامج للخلاص من ثنائية العسكر/ الإخوان التي عطلت النهضة لعقود. فليس العسكر سفينة نجاة، على رغم أهمية الجيش المصري وعراقته، وليس الإخوان تياراً مدنياً بديلاً للعسكر.الموقف صعب، وسيزداد صعوبة إذا لم تستطع حكومة السيسي تمييز نفسها عن الناصرية والساداتية والمباركية واجتراح طرائق للاتصال الحيوي مع المجتمع المدني بتياراته المختلفة، حتى تلك التي ضللها «الإخوان» واستثمروها لدعم طموحهم الإقليمي والعالمي.
في إمكان المثقفين أن يشكلوا جماعات ضغط على الحكم الجديد وجماعات نقد لسلطته التنفيذية من خلال كونهم قادة رأي عام وربما من خلال حضور عدد منهم في البرلمان الجديد. ويتمكن المثقفون من الدور الحيوي إذا كانوا مستقلين، أو أن يتخففوا من الأغلال التي ربطتهم بأجهزة الدولة خلال حكم العسكر المديد. ثمة أمل بمؤسسات إعلامية وثقافية وفنية خاصة، وثمة ضرورة لأن يحل القطاع الخاص شيئاً فشيئاً محل القطاع العام في مؤسسات الإنتاج الثقافي، وهي مؤسسات مربحة بالضرورة، كون النتاج الثقافي المصري يحظى بسوق عربية واسعة فضلاً عن مساحة من السوق العالمية.
لا يستطيع المثقف توجيه نقد للحكومة إذا كان موظفاً لديها، مهما بلغت شهرته أو سنده المعنوي. المطلوب أن يكون حراً ليطلب الحرية للآخرين.
ثلاث سنوات ما بين الجنرال مبارك والمشير السيسي، حقق خلالها الشعب المصري إنجازين كبيرين، قوة الحرية الباقية كأساس للتغيير ولتفادي الفوضى، وانكشاف «الإخوان» كتنظيم سياسي دون مستوى الشعب المصري.
لكن عهد السيسي مترافقاً مع قوة الحرية الشعبية وثقة المثقفين بدورهم الناقد، لا التابع، في إمكانه نقل مصر من حكم العسكر الذي دخل في الخواء منذ ثلاثة عقود وأكثر، مع المحافظة على جهوزية الجيش وكرامته، كما في إمكانه بالتطوير ومحاربة الفساد وخلق فرص عمل جديدة، أن يطوي البديل الإخواني، الذي ثبت بالملموس أنه ليس بديلاً بقدر ما هو معرقل للطموح نحو مستقبل أفضل.
وللمثقفين المصريين: قليل من البيانات وكثير من النقد، وأكثر منه لاقتراحات من أجل المستقبل تقدمها عقول مصرية راجحة لم تجد مكاناً في صخب السلطة وصخب المعارضة.
> الأربعاء 28/5/2014: الذي كان
الصيف الذي كان في بيت من أغصان جافة وهواء الجهات الأربع، وأول الحب هناك والدهشة الأولى.
الصيف ولا خريف بعده، فجأة برق الصاعقة ورعدها والمطر يعجز عن امتصاصه تراب قريتنا البعيدة.
الصيف الذي كان، وهروبنا إلى المدينة حيث تضيع الفصول في الشوارع الضيقة.
> الخميس 29/5/2014: يونانيو الإسكندرية
جاليات المدينة المتوسطية تكتب عنها عندما كانت مدينة متعددة الثقافات، ويكتب السكان الأصليون أيضاً ليس من حنين إنما طلباً للتعددية وللخروج من شمولية قتلت المدينة. إنها كتابة شبه تأريخية عن ماض لن يعود، ولكن يتم تصويره أو توثيقه أو إبداعه كواقع قابل للاستعادة.
الإسكندرية، المدينة الأكثر حظوة، لكثرة كتّاب عاشوا فيها أو عرفوها. كتب لورانس داريل روايته «رباعية الإسكندرية» الأكثر شهرة، وبعده آخرون من بينهم اثنان من الشوام (اللبنانيون والسوريون الذين عاشوا في مصر من أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين)، هما الفرنكوفوني روبير سوليه والكاتب بالعربية نجيب العقيقي (روايته «برج بابل» لم تحظ باهتمام النقاد المصريين والعرب).
ونشطت الكتابة عن الإسكندرية مجدداً مع مشاريع السلام في المنطقة حين استعادت الجاليات ذاكرتها المكتومة وحاولت ربطها بالواقع القائم في المدينة على رغم الفارق بين مدينة وطنية رتيبة ومدينة كوسموبوليتية دخل زهوها في الذاكرة.
أحدث ما صدر بالعربية عن الإسكندرية، رواية ذيميتريس ستيفاناكيس «أيام الإسكندرية» التي نقلها من اليونانية إلى العربية محمد خليل رشدي وراجعها عادل سعيد النحاس (عن المركز القومي للترجمة - القاهرة). نشير بداية إلى إسقاط المترجم مقاطع اعتبرها إباحية على رغم كونها أساسية في النص.
ترصد الرواية حياة الجالية اليونانية في الإسكندرية من أواخر القرن التاسع عشر إلى ستينات القرن العشرين، تحديداً فترة التأميمات، إذ يموت البطل غمّاً في سيارته حين يتلقى قرار تأميم مصنع السجائر الذي ورثه وكان إنتاجه ينافس في أسواق أوروبا. ولم يشفع للجالية أنها كانت الأكثر اندماجاً بين الجاليات الأوروبية في مصر وأن بحارة منها ساعدوا في نجاح تأميم قناة السويس.
كانت فترة ما بين الحربين العالميتين يقظة ما قبل النهاية للجاليات الأجنبية:
«ومع البدايات الأولى لعام 1938، بدأت هايكي التفكير بشكل جدي في مغادرة الإسكندرية والإقامة في أي مكانٍ آخر تختاره، وبدت لها اليونان حينئذ ملاذاً آمناً. لكن كوستيس كان يضحك ويقول: «هل جُننتِ؟ أنترك تلك الجنة التي خلقها الله على الأرض. ألا تدركين كم نحن محظوظون بأننا نعيش هنا، وسط النخيل والصحراء الساحرة؟». لكن، كان عقلها يحدثها بشيء آخر. فقد كان من المستحيل أن تؤول تلك المدينة إلى كل تلك الأجناس والأديان. في يوم من الأيام سيظهر السادة الحقيقيون ويطالبون بحقوقهم، وعندئذ فلن يقبلوا أن يظلوا «عبيداً» مدى الحياة للأوروبيين واللبنانيين، وهكذا ستصبح الإسكندرية كأي رواية تنتهي نهاية مأسوية».
ثمة حضور شاحب للمصريين في الرواية، ضابط الشرطة الذي يغمض عينيه عند الضرورة وحارس البيت وفتيات في العالم السفلي حيث يتمرن المراهقون على ما سيصير حياتهم الخاصة. الحضور الغالب لليونانيين في المدينة، وجولاتهم في ألمانيا وفرنسا واليونان، وأحياناً إسطنبول، إذ يسافر أفراد من الجالية بحثاً عن علم أو مغامرة أو نضال سرّي في وطنهم الأم. هنا نلمح انقسامات الجالية التي لا علاقة لها بمصر إنما تطاول مستقبل اليونان بين نزعتي الفاشية والديموقراطية.
لكن شخصية لبنانية في الرواية (إلياس خوري) تنافس اليونانيين، فهو خيط ارتباط بين أعيان الجاليات الأجنبية، وهو يظهر في صورة مثقف عملي ضليع في السياسة من خلال انتسابه إلى الاستخبارات البريطانية وفي عالم الأعمال بجنيه المال من علاقاته العامة بالأغنياء الذين ينتسب إلى طبقتهم، ولا يتورع عن خدمة الاستخبارات بتأسيس بيت للدعارة تديره صديقته الفرنسية، يقول: «أتعلم أننا نحن الشوام لا يجب أن يثق فينا أحد؟ (قالها بالفرنسية ضاحكاً). إنك لم تسمع المصريين وهم يقولون إن اللبنانيين كالفحم لا ينبغي إمساكه بيدك، لأنه إذا كان مطفأ فسوف يسوِّد يدك وان كان مشتعلاً فسوف يحرقك».
يونانيو الإسكندرية بطبقاتهم الاجتماعية وخلافاتهم السياسية حول الوطن الأم. رجال ونساء ومحبة وخيانة، وشذوذ أحياناً.
إنها أمراض العابرين، فثمة بالضرورة شرخ في وجدان من يقيمون في وطن ليس وطنهم ولا يريدونه وطناً لهم. مدينة متوسطية تستقطب المغامرين من أجل المال أو لأهداف سياسية أو هرباً من حروب أثخنت أوروبا أو من مشرق عربي يحطمه العثمانيون. إنها الإسكندرية الباقية والبشر الذاهبون إلى الشيخوخة أو استكمال طريق الضياع.
في الصفحة 366 من الرواية ورد أن «حاييم وايزمان زار الإسكندرية للمرة الأولى عام 1918، وكان يظهر دائماً بصحبة صامويل عظيمان، الذي اتهمه إلياس خوري دائماً بأنه المورد المالي الرئيس لدعم تهريب السلاح إلى فلسطين لتسليح «الهجانة» (ذكرها باللغة العربية ودوّنها بحروف يونانية)، التي كانت بمثابة جنود الجيش الصهيوني السري. وعندئذ كان صامويل يخاطبه على الملأ بأنه «عدو للسامية». والحقيقة أن إلياس كان قد أفرط في الانغماس في حلم كل العرب، وكان من بينهم السوريون - اللبنانيون المسيحيون الذين كان البارون دي ميناسيه يشكو منهم لحاييم وايزمان قائلاً: إنهم لا يأخذون الأمر مأخذ الهزل، ولكنهم معادون للسامية». ويقال إن إلياس غادر ذات مرة إحدى حفلات الحي اليوناني مسرعاً، بعد أن وجد نفسه مضطراً للجلوس مع أحد اليهود المعروفين بمعتقداتهم الصهيونية. والإجابة التي أعطاها لرب المنزل الذي حاول أن يثنيه عن المغادرة جاءت على النحو التالي: لا تورطني مع واحد من هؤلاء السفارديم القذرين... إلى اللقاء (قالها بالفرنسية)».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق