بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 يوليو 2013

العرب في نصف قرن: الإدمان على الفشل -جورج قرم - لبنان



أنتمي إلى جيل من العرب قد علَّق الآمال الكبيرة على التحرر من القوى الاستعمارية وبناء منطقة عربية متماسكة وقوية في النظام العالمي ومستقلة عن قوى الهيْمنة الخارجية. وقد استفقْتُ على محيطي السياسي عند زلزال الهجوم الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي على مصر العام 1956 حيث وعيْتُ مدى التناقض بين ما كنْتُ أتعلَمه في مدرسة اليسوعية في القاهرة من مبادئ نبيلة للثقافة الفرنسية الداعية إلى تحرر الإنسان من كل أنواع الظلم وكبت الحريات، وإلى مبادئ ناتجةً عن فلسفة الأنوار والثورة الفرنسية من جهة، وممارسة فرنسا ذاتها بهجومها الإجرامي هذا على مصر مع حلفائها، بريطانيا وإسرائيل، من جهة أخرى.
وقد سافرْتُ إلى باريس بعد ذلك لدراستي الجامعية العام 1957 وتعرّفْتُ حينذاك على المشهد السياسي الفرنسي الصاخب، خاصةً التناحر داخل مجموعة المثقفين الفرنسيين، بين أنصار تحرير الجزائر وتأييد استقلالها، وبين المتمسكين بالاستعمار الفرنسي التقليدي. كما كانت لي مشاهدات عديدة في غنى الحياة الفكرية الفرنسية حينذاك بين مدارس فلسفية سياسية انتقادية للأوضاع السائدة أوروبياً وعالمياً، وتفكيكية للمفاهيم واللغة المستعملة في وصف حالة العالم. وكانت الساحة الفكرية الفرنسية تضج حينذاك بأنواع مختلفة من الماركسية وكذلك بأفكار تقليدية محافظة كانت ترى تفوق الحضارة الغربية على سائر حضارات العالم الحديث، وهي تزدري بشكل خاص حركة التحرر العربية بقيادة جمال عبد الناصر والأحزاب الثورية العربية العلمانية الطابع والآخذة بمبادئ الثورة الفرنسية.
وفي العام 1958 هزّتني إلى العمق أوَّل فتنة لبنانية بعد الاستقلال التي أخذت تلاوين طائفية، خاصةً في الإعلام العربي والغربي، وهي فتنة ناقضت كل المفاهيم التي كنْتُ قد تربيْتُ عليها حول لبنان، بلد الإشعاع والنور، بلد حوار الإسلام والمسيحية وحوار الحضارات، الجسر بين الشرق والغرب، الخ، من كل هذه الكليشيهات المُملّة.
بعد دراستي الجامعية في فرنسا عدْتُ سريعاً إلى لبنان منجذباً إلى ما كان يقوم به الرئيس فؤاد شهاب من إصلاحات جبارة في الدولة اللبنانية وفي اقتصاد البلاد. فانخرطْتُ في وزارة التصميم العام، ومن ثم في وزارة المالية. وسرعان ما أتت الصدمة الثانية العام 1967 بانكسار الجيوش العربية الثلاثة، المصرية والسورية والأردنية، أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية في ظرف أيام معدودة. وقد تأثَّرْتُ إلى أبعد الحدود برؤية جمال عبد الناصر عبر الشاشة التلفزيونية وهو يبكي مقدماً استقالته أمام هذه الكارثة.
لم يتسنّ لي الوقت الكافي لاستيعاب الصدمة، وإذ بأحداث جسيمة تحصل في الساحة اللبنانية بقدوم التنظيمات الفلسطينية المسلَّحة إلى لبنان وتمركزها في الجنوب، وما سببته تلك التنظيمات من تجاذب حاد بين اللبنانيين في ما يخص هذا الوجود المسلَّح وما يجلبه من هجمات إسرائيلية متكررة ودموية على الأراضي اللبنانية. وكنْتُ أزور الجنوب بشكل متواصل مع بعض الأصدقاء للإطلاع على أوضاع التوتر التي كانت تسود بين الأهالي وبين التنظيمات المسلَّحة، وذلك على أمل المساهمة في تهدئة العلاقات المتوترة بين تلك التنظيمات والأهالي. لكنّني وعيت أن لا أمل في إنقاذ الجنوب من الفوضى والعنف والضربات العسكرية الإسرائيلية الفتّاكة.
هذا التراكم في الصدمات جعلني أترك الإدارة اللبنانية التي كنْتُ يئسْتُ من استمرار الإصلاح فيها بعد انتهاء ولاية الجنرال فؤاد شهاب، وأن أترك لبنان بعد أن يئسْتُ من الوضع في الجنوب، وكنْتُ أشعر بحصول كارثة كبيرة. امتلكتني حالة من الاشمئزاز العميق جعلتني أترك الساحة اللبنانية وانتقل إلى باريس هرباً من الواقع اللبناني، وعملْتُ لمدة ثلاث سنوات في القطاع المصرفي في باريس في أكبر مصرف عربي ـ فرنسي مختلط تم تأسيسه على أثر إيجابية سياسة الجنرال ديغول تجاه العرب وجرأته في إدانة التصرفات الإسرائيلية.
وكان العديد من أصدقائي قد تدّربوا على السلاح أو انخرطوا في الأحزاب الثورية الفلسطينية أو العربية أو اللبنانية، أما أنا فقد بدأتُ كفاحي بقلمي، اذ كرسْتُ أربع سنوات من حياتي لكتابة أطروحة الدكتوراه حول «تعدد الأديان وأنظمة الحكم»، ودافع الكتابة هذه كان ناتجاً عما رأيْتُه من حقيقة الحياة الطائفية والمذهبية البشعة في لبنان والكليشيهات عن «لبنان سويسرا الشرق» وغيرها. وقد كان أصدقائي من اليساريين والقوميين العرب يقولون لي إنَّ هذا الموضوع قد تجاوزه الزمن لأنَّ دنيا العرب أصبحت شبه خالية من تأثير الدين والمذهبية على الحياة العامة، وانه دخلنا في أوضاع ثورية شاملة ستغير حتماً من وجه المنطقة وتحررها من الهيمنة الإسرائيلية الغربية.
وقد كنتُ عند ختامي كتابة الأطروحة قد تنبأتُ بانفجار لبنان بسبب نظامه الطائفي تحت وطأة الضربات الإسرائيلية وتصرفات الزعامات الفلسطينية واللبنانية. وكانت دراستي هذه زادتني قناعةً بأنَّ أي نظام مبني على أساس الانتماءات الطائفية والمذهبية يؤدي إلى الكارثة، ولذلك لا بدَّ من الولوج إلى نظام مدني صرف لا مرجعية دينية أو مذهبية فيه. وهذه قناعة ما زلْتُ متمسكاً بها إلى اليوم، خاصة في ظل التوتر الحاد فيما بين العرب من مذاهب إسلامية مختلفة.
لم تدم إقامتي في باريس إلا ثلاث سنوات، إذْ شعرْتُ أنني لا يمكن أن أبقى بعيداً عن بلدي والوضع الأمني فيه يزداد سوءاً يوماً بعد يومٍ والانفجار الكبير آتٍ لا محالة. عدْتُ من باريس إلى بيروت في صيف العام 1973 وأسَّسْتُ فيها مكتب تمثيل للبنك الوطني الجزائري نظراً للعلاقات الوثيقة التي كنت نسجْتُها مع بعض الشخصيات الجزائرية العامة في الدولة من خلال عملي المصرفي. وقد طلبت مني الحكومة أن أستقر في الجزائر كمستشار مالي لها، لكنّي رفضْتُ ونصحتُها بأن يكون لها وجود مصرفي في بيروت وهذا ما تمَّ. وقد أغنتني التجربة الجزائرية هذه كثيراً وأعطتني نوعاً من المناعة لتحمُّل الوضع اللبناني. وقد طُلِب مني ألا أسعى إلى العمل السياسي حتى بالكتابة لأنَّ الزمن ـ كما قال لي عبد المالك تمّام، رحمه الله، وهو كان من كبار المجاهدين ورئيس البنك الوطني الجزائري ووزير المالية حينذاك ـ هو زمن رديء للغاية تحرِّكه قوى جبارة لا إمكانية للتأثير عليها. وقد أعرِّض حياتي من دون جدوى فتكون تضحية عقيمة؛ وقد أثَّر هذا الكلام فيَّ.
وفي الفترة ذاتها استغربْتُ كلام بعض الأصدقاء من المسلمين بأنَّه يجب أن أنخرط بالعمل السياسي وبشكل خاص أن أنخرط مع حزب «الكتائب» لكوني مارونياً لأُدْخِل بعض الاعتدال فيه على أساس أنَّه على المسلمين أيضاً أن يفعلوا الشيء ذاته مع أحزاب الحركة الوطنية آنذاك. وقد استغْربْتُ أيضاً أشد الاستغراب سماع بعض القياديين من أعلى المستويات في منظمة التحرير الفلسطينية ينعتون النظام السوري بـ «النظام العلوي العميل» وذلك على أثر خلافات حادة كانت قد نشأت بين المنظمة والنظام السوري الذي بدأ يتدخل عسكرياً في النزاع المسلَّح اللبناني لمنع التحالف بين الحركة الوطنية والتنظيمات المسلَّحة الفلسطينية من اجتياح المناطق المسيحية عسكرياً؛ ذلك أنَّ استعمال مثل هذا المنطق الطائفي المذهبي لإدانة تصرفات النظام السوري، بدلاً من المنطق الدنيوي السياسي، كان يكوّن خدمة كبيرة للدولة الصهيونية وللغرب المساند لها والذي كان يسعى إلى توطين الفلسطينيين في لبنان. وقد كتبْتُ حينذاك مقالاً مطوَّلاً بعنوان «صهْينة العقل العربي» صدر في مجلة «دراسات عربية» الذي كان يقوم بنشرها المرحوم بشير الداعوق. وبالفعل تشاءمْتُ إلى أقصى الدرجات عندما رأيْتُ حركة ثورية عربية تستنجد بالطائفية والمذهبية في خلافها السياسي مع نظام الرئيس حافظ الأسد.
وقد صمدْتُ في لبنان ولكنني رأيْتُ أنَّ صمودي هذا لا يفيد ويعرِّضني لخطر الاختطاف لكوني مسيحياً مارونياً أقطن رأس بيروت التي أصبحت تُسمَّى بيروت الغربية (وقد كنْتُ تعرَّضْتُ لمحاولة اختطاف فاشلة نهاية العام 1975)، إنَّما فقدْتُ العديد من الأصدقاء وأحد أفراد عائلتي في عمليات الخطف وهم لم يعودوا أبداً إلى بيوتهم وعائلاتهم.
وصمدْتُ في لبنان إلى العام 1985 مع بعض فترات الإقامة في الجزائر، خاصةً عندما كانت الأوضاع الأمنية تسوء كثيراً ويدعوني وزير مالية الجزائر أن آتي إليه لأنَّه بحاجة إليّ كمستشار في أعبائه الوزارية. توفي رئيس البنك الوطني ووزير المالية الجزائري العام 1977، ومن ثم توفي الرئيس الجزائري بو مديِن وتمّ إبعاد الشخصيات التي كان يعتمد عليها رئيس الدولة، وتمّ إقفال مكتب البنك الجزائري في بيروت العام 1980. وشعرْتُ أني أصبحْتُ يتيماً وحيداً في الغابة الدموية اللبنانية من دون إمكانية أي عمل مفيد. وقد رفضت عروضاً مغرية للعمل في الدول الخليجية وقبلت أن أصبح مستشاراً لحاكم مصرف لبنان الشيخ ميشال الخوري آنذاك الذي كان يواجه بجرأة الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد.
وعندما حصل الغزو الإسرائيلي للبنان وعاصمته العام 1982، شعرْتُ بالذل والعار مرة ثالثة في حياتي (1958 و1967 و1982)، إذْ أنَّ القوات الإسرائيلية بقيادة أرييل شارون كانت قد دخلت القصر الجمهوري في بعبدا على أثر الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 ولم يُطلق الحرس الجمهوري أو أية فرقة من الجيش أو الشرطة رصاصةً واحدة ولو رمزية في وجه القائد الصهيوني الذي دخل القصر الجمهوري المهجور من قاطنيه ومن الرئيس سركيس. وهل من الضرورة التذكير بدلالة انتحار الشاعر المشهور خليل حاوي خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان! لكني سعيْتُ أن أحوِّل تعاستي إلى عمل فكري مفيد، فكنْتُ قد بدأتُ بوضع أوَّل طبعة لمؤلفي انفجار المشرق العربي، حيث سعيْتُ إلى استيضاح عوامل الفتنة والفرقة بين العرب وكذلك عوامل الضعف وقبول المهانة أمام إسرائيل والدول الغربية المساندة لها. كما كنت أعلِّم في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية. وبعد خطف ثلاثة زملاء عزيزين العام 1985 وهم كانوا من كبار موظفي البنك المركزي وعدم عودتهم، قررْتُ الانتقال إلى باريس مرة أخرى، فالبقاء لا يفيد.
استقريْتُ في باريس واستقدمْتُ مجموعة كتبي ومراجعي، بدأْتُ بالكتابة بشكل مكثف ساعياً الى فهم العوامل الموضوعية التي يمكن أن تفسر هذا العجز اللبناني والعربي الشامل أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية من جهة، وأمام الضغوط الأميركية والأوروبية الحامية لإسرائيل من جهة أخرى. وقد كان همي الابتعاد عن التفسير الأنتروبولوجي الذي يحمِّل مسؤولية الأوضاع الى صفات جماعية سلبية عند العرب. وبدأت التفكير والتأمل بتفكيك وتحليل العلاقات المعقَّدة بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية لما أسميْتُه فيما بعد «ديناميكية الفشل» عند العرب.
وقد تتالت طبعات مؤلفي «انفجار المشرق العربي» الواحدة تلو الأخرى، وكنْتُ أتعمَّق في كل مرة أكثر وأكثر في المصادر المختلفة لهذه الديناميكية السلبية ولما كنْتُ أسميْتُه بالنسبة إلى لبنان هيمنة ثقافة الفتنة كأسلوب وحيد للتعبير عن المشاكل الكبرى ورؤية العالم. وقد بدا لي بأنَّ انقسام العرب كأنظمة في ذلك الحين بين مؤيِّدي السياسة الغربية في الشرق برغم كونها تؤمِّن تفوُّقاً إسرائيلياً عسكرياً متواصلاً من جهة، وبين العرب المعادين للاستعمار والتقدميين ـ كما كانت تُستعمل هذه المقولة في ذلك الوقت ـ من جهة أخرى، انقسامٌ فتّاك لا بدّ من العمل لتجاوزه.
ومن الأحداث الجسيمة التي غيَّرت الساحة الشرق أوسطية (وليس العربية) الثورة الإسلامية في إيران التي سببت زلزالاً لدى التقدميين والقوميين نظراً لتأييد الثورة للقضية الفلسطينية بحماس كبير، على خلاف معظم الأنظمة العربية، وأصبح النظام الإيراني الجديد يقف كقوة معادية للوجود الغربي في المنطقة، وبالتالي يثير مخاوف الأنظمة العربية المؤيِّدة للسياسة الأميركية. وقد بدأ حينذاك صراع فكري وسياسي شديد الوطأة بين الأنظمة الملكية ذات السلطة القوية للغاية والثورة الإيرانية وأنصارها من العرب. ولا بدَّ هنا من التذكير بالانقلاب المجتمعي العام الذي حصل بين الدول العربية، إذْ أنَّ ممالك النفط العربية منذ 1967 والانكسار العسكري أمام الجيش الإسرائيلي وبعد ذلك بشكل خاص، زيادة أسعار النفط أربعة أضعاف على أثر حرب العام 1973، أصبحت تتحكم أكثر فأكثر إعلامياً وحضارياً وثقافياً ودينياً واستثمارياً بحياة الشعوب العربية عبر قنوات النفوذ المدعوم بالمال على الأنظمة والمجتمعات العربية الأخرى. وقد نجحت سياسات تلك الدول خلال سنوات معدودة بأن تستبدل شعارات القومية العربية، العلمانية الطابع، بشعار «الصحوة الإسلامية» التي تجسدّت في خلق مناخ من التظاهر بالتديُّن الشديد في كل تفاصيل الحياة اليومية. وقد ركّب الرئيس السادات في مصر هذه الموجة بتشجيعه عودة تنظيم «الإخوان المسلمين» الى الحياة العامة في مصر، على حساب التنظيمات الناصرية والتقدمية، وذلك تغطيةً لإقدامه على التطبيع التدريجي مع الكيان الصهيوني.
وقد شعرْتُ حينذاك أنَّ منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص المجموعة العربية فيها قد وقعت في الهلاك المحتوم بالتنازل عن المطالب القومية المشروعة والاتجاه نحو مزايدات دينية والعمل على صعيد إسلامي، بالأخص عبر إنشاء منظمة الأقطار الإسلامية كرديف أو بديل ليس فقط عن الجامعة العربية (الواقعة تحت نفوذ ما كان يُسمَّى حينذاك دول الصمود والتصدي، أيْ العراق وليبيا وسوريا والجزائر)، بل أيضاً عن حركة عدم الانحياز التي أصبحت تفقد بريقها. والى جانب هذا الانحراف في مسار القومية العربية أصبحت العلاقات بين إيران وممالك الخليج سيئة للغاية فتبرَّع الرئيس العراقي صدام حسين، بالهجوم على إيران بالوكالة عن الممالك العربية والنفطية والدول الغربية، من دون أن يعي مهالك الخطوة هذه التي سيدفع هو وكل الشعب العراقي ثمنها غالياً. ومع هذه الحرب الإيرانية - العراقية، فقدت المجموعة العربية أية إمكانية بأن تستعيد الحد الأدنى من الهيْبة في النظام الإقليمي والدولي. وقد أصبحت تحت الهيْمنة الأميركية بشكل مطبق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق