بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 سبتمبر 2013

في حضرة غياب ادوراد سعيد مالك التريكي



قال لي صديقي ذات مساء لندني خريفي مطير: انسى وتصالح مع اليأس. ليس هناك مثقف عربي مستقل. الاستقلالية في بلادنا صعبة، بل هي شبه مستحيلة. انسô قلت: ليس هذا صحيحا، يكفي أن يكون المثقف أو الأستاذ الجامعي قانعا براتبه الشهري، الحافظ لكرامته، حتى يكون قد استوفى الشرط المادي الأساسي للاستقلالية. المثقفون المستقلون قلة، ولكنهم موجودون. قال: ومن هم؟ أرني واحدا فقط. فذكرت له، على سبيل المثال، جورج طرابيشي، وجلبير أشقر، وجورج قرم، وعبد الله العروي، وهشام جعيط، ويوسف صديق، وعبد الوهاب المؤدب والمنصف الوهايبي، الخ. قال صديقي، وهو من الصحافيين المجيدين: فليكن، ولكن ما هي جدوى الاستقلالية في هذا العصر المتقلب المزاج المتلاطم الأمواج؟ بل ما هي جدوى المثقف ذاته؟ ما معنى ذلك كله؟ ما معنى أن يعبر نعوم تشومسكي، كل أسبوع تقريبا، عن رأيه في هذه المسألة أو تلك؟
المعنى؟ هو بالضبط ما شرحه ادوراد سعيد، الذي تحل الآن الذكرى العاشرة لرحيله، في أحد أجمل كتبه (مجموعة محاضراته في البي بي سي عن ‘صور المثقف’) وما جسده طيلة حياته الفكرية المتوقدة بإبداع متأصل في الذكاء والوفاء. لم يتهيب سعيد من الصدع، وحيدا في ساحة ثقافية وأكاديمية معادية، بحقائق مزعجة للضمير الأمريكي الهانىء بأفضليته السياسية والمخلد إلى سعادة الاستعلاء الأخلاقي على العالمين. وكان سعيد قد بدأ يحلق بجناح الجدارة (قبل أن يحلق بجناح القضية) منذ أن أفلح في فتح ثغرة كبرى في حصن الخطاب الثقافي الغربي المتواطىء، إراديا أم موضوعيا، مع قرون من حملات الهيمنة الغربية على بقية الإنسانية، وخصوصا على هذا الشرق الذي ما إن بدأ يطمح للانعتاق من نقم التاريخ والإيديولوجيا حتى وقع في نعم الجغرافيا والجيولوجيا. والنعمة والنقمة سيان. كلتاهما مذلة وإظلام مصير.
وعندما أتت اتفاقيات أوسلو، عام 1993، بضلالاتها الاستسلامية الانهزامية لم يتردد سعيد في الوقوف، وحيدا في ساحة سياسية إجماعية معادية وأمام ‘سلطة وطنية’ صارت ألد الخصام (فقد منعت ‘السلطة’ كتب سعيد في أراضيها، بينما كانت تباع في كل بقاع الأرض، بما فيها دولة إسرائيل!!!)، ضد سياسة ترويج الأوهام والإصرار على إنكار الواقع. كان يبدو، خاصة في منتصف التسعينيات، كما لو أنه دون كيشوت المبارز لطواحين ‘السلام’ الهارب أبدا إلى الأمام. عقدان (شهد سعيد على أولهما بتلك الفصاحة الآسرة) أثبتا صحة موقفه، حيث أن ‘أوسلو’ لم تكن سوى تصفية للقضية الفلسطينية دون مقابل. بالمجان. ويبقى ‘حل الدولتين’ قائما بطبيعة الحال طالما ظلت ‘السلطة الوطنية’ مستمرة في ممارسة سياسة ‘تعليق عدم التصديق’. ولكل امرىء ما نوىالمثقفون المستقلون موجودون. وهذا ما يثبته باسكال بونيفاس في كتابه الصادر قبل أشهر عن ‘المثقفين النزهاء’ (وكان قد نشر قبل عامين كتابا عن ‘المثقفين الدجالين’). وبما أنه استهل كتابه بحوار مع نصير القضية الفلسطينية الذي رحل عنا أوائل هذا العام، ستيفان هيسيل (صاحب البيان الشهير ‘فلتغضبوا’
ô على مظالم هذا العالم)، فلا بد أن نذكر أيضا مثقفا مستقلا آخر هو محمد أركون الذي رحل عنا في مثل هذا الشهر من عام 2010. كان الرجل مكتفيا براتبه الجامعي. الاستقلالية ممكنة. ولا تصالح مع اليأس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق