بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

بغداد التي كانت -ياسين النصير



نتحدث عن بغداد الأمس القريب، بغداد السبعينيات والثمانينيات، ولا نتحدث عن بغداد اليوم، على الرغم من أن مدخول بغداد اليوم المالي والثقافي أغنى وأوسع كثيراً عن مدخولها قبل ثلاثين سنة ونيف، ولكن الحديث يكتسب ألما مضافا عندما لا نجد بغداد اليوم حتى في أبسط صورها العمرانية قد تعافت من أمراض الحروب، إذ يبدو للبعض أن البقاء ضمن ثقافة الخراب  هدف يعتاش عليه .
أتحدث عن الثقافة يوم كانت بغداد تطبع وتقرأ وتفكر وتنتج مؤسسات ومنظمات وأنشطة، أتحدث عن بغداد التي انفردت من بين العواصم العربية كلها بأن تكون لاتحادات الأدباء والمعلمين والمهندسين والأطباء والفنانين والمعماريين والموسيقيين نواديهم الثقافية ومؤسساتهم الأدبية  من صحافة وأنشطة ومجلات، يمارسون فيها أنشطتهم وتجمعات أسرهم فحسب، إنما كانت نوافذ تتبارى فيما بينها لتقديم الأفضل والأجود على مستوى الأفلام السينمائية، والفرق الموسيقية الأجنبية، والمعارض التشكيلية العالمية، وعرض الأسطوانات الموسيقية للسمفونيات العالمية، والاستماع كل مطلع شهر لأم كلثوم، وتتبع أخبار وموسيقى فيروز والقبانجي ويوسف عمر، وتعميم برنامج الفرق المسرحية وفي مقدمتها فرقة المسرح الفني الحديث، كل هذا كان يرمم وجه بغداد الحضاري، ويعمق صلة الناس بوجودهم باعتبارهم منتجين للثقافة، ومستهلكين لإبداعاتها.
2     
ماذا كانت حصيلة ذاك الحراك الثقافي؟ من عاش الفترات السابقة يشعر ان فئة المثقفين لها دور في صياغة وجود بغداد، فمن خلال معارض الفن التشكيلي التي كانت تنظم بطريقة حضارية يمكنك أن تطل على أفضل التجمعات الفنية  العراقية وجماعاتها، وتتعرف على أهدافها وتوجهاتها والمدرسة الفنية التي يريدون تعميق حضورها، وتجد ذلك في الأعمال المسرحية حيث يتجاور برشت مع اوزفالد ودراكون وشكسبير و ابسن  وبيراندللو وبيكت وأوزبورن ومحمود ذياب ويوسف ادريس ويوسف العاني وعادل كاظم وقاسم محمد وعوني كرومي ومحيي الدين زنكنه، وعشرات غيرهم، وتجد الصحافة تعكس حوارات بين الملحمية والتعبيرية والتجديدية والمستقبلية، وقل ذلك بشأن الأنشطة الموسيقية اذ يقود ويمارس الموسيقيون العراقيون دورهم الحضاري فتصدح الفرقة السمفونية في أجواء بغداد ولياليها. والمحصلة الثقافية كبيرة جدا، أولها ظهور جيل من المفكرين والفنانين والشعراء والأدباء والمسرحيين والقراء وآلاف من رواد المسرح والسينما والكاليريهات الفنية، ثانيا أصبح الدخول لميادين الثقافة يوازي حضور الإبداع في المجالات المختلفة كالهندسة والطب والعمارة، فالحصيلة الثقافية لا يمكن أن تحصرها في جماعة أو اتجاه، وبمثل ما كان لبغداد من حضور كان للبصرة ونينوى وأربيل والسليمانية والعمارة وكربلاء  والناصرية والحلة  وديالى ولغيرها حضور وأنشطة وقوة معرفية وحوارات ومجلات وصحف ومثقفون جدد.
3
ما حصيلة يومنا العراقي حاليا؟ ما هي أوجه ثقافتنا التي تتوازن مع حضور بغداد والمحافظات في الذاكرة العراقية؟ كيف يمكننا أن نقول للأجيال الجديدة التي تتطلع لأفق أرحب: إنكم في مقدمة الشباب العربي في تلقي العلوم والفنون والجمال والخير؟ لا شك اننا نوهم أنفسنا إذا قلنا لهم ان يومكم أفضل من أمسكم، وانكم ستجدون في برامج الأحزاب والمهيمنين على مرافق الدولة ما يمكنكم أن تكونوا في مقدمة مجايليكم من الشباب العربي، بالطبع سيكون قولنا محط سخرية وتفكه وتندر، فما نعيشه اليوم يشكل سببا للتراجع بحجة الأمن الذي لا نعرف أي الطرق ستجعله مستقرا، سيقولون لنا ان غدنا سيكون أفضل، ونحن مقتنعون بذلك، ولكن لن يأتي الغد بدون أن يكون لليوم حضور فاعل، ومادام يومنا قاحل الأنشطة، لن تكون لنا بغداد التي كانت قبلة ونورا وثقافة وفنونا ومهرجانات وقوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق