بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 سبتمبر 2013

صناعة ‘الصوملة’: انتظروها في سورية.. فأتت من كينيا! صبحي حديدي



شتان بين كينيا، بوصفها صورة الفردوس الأرضي الذي شهد المغامرة العاطفية للكاتبة الدانمركية البارونة كارين بليكسن، وعشيقها دنيس فينش هاتون (ميريل ستريب وروبرت ردفورد، في الشريط السينمائي الشهير ‘خارج أفريقيا’)؛ وكينيا الأيام القليلة الماضية، حين نفّذت ‘حركة الشباب المجاهدين’ الصومالية عملية إرهابية واسعة النطاق، دامت أربعة أيام، واستهدفت أحد أهمّ مراكز التسوّق السياحية في العاصمة نيروبي، وزاد عدد ضحاياها عن 70 قتيلاً. وسيّان، في المقابل، مع حفظ فوارق طفيفة تخصّ متغيرات الأزمنة، لا الجوهر والأساس؛ بين إرهاب قادم من الجوار، يثأر لتدخل عسكري كيني ضدّ الحركة في الصومال، بدفع من واشنطن، وتسهيل لوجستي، إضافة إلى تقارير جدّية عن استخدام طائرات أمريكية بلا طيار في اغتيال قادة ‘الشباب’؛ وبين إرهاب شقيق، كينيّ صرف هذه المرّة، يستعيد التراث الدامي لعملية التفجير التي استهدفت السفارة الأمريكية في نيروبي، أيضاً، وأوقعت قرابة مئتَي قتيل، جلّهم من أهل البلد.
فتّشْ عن أمريكا، إذاً، كما سيقول البعض (وفي عدادهم كاتب هذه السطور)، وعن سياسات البيت الأبيض هنا في كينيا، وكذلك في الصومال والقرن الأفريقي إجمالاً؛ ثمّ دعْ جانباً، أو حتى إشعار آخر غير منظور، صورة كينيا الفردوس الأرضي، أو صورة البلد الذي ظلّ، طيلة عقود، واحة تجانس اجتماعي ـ إثني (رغم قبائله التي يتجاوز عددها الـ 40)، وتنعّم باستقرار سياسي لم ينهض على سيرورة ديمقراطية متقدّمة نسبياً، فحسب، بل بدت نادرة في غمرة اضطرام الصراعات والنزاعات؛ في القارّة الأفريقية، عموماً، وفي منطقة البحيرات الكبرى بصفة خاصة. ولا مناص، في استكمال التشابك الجدلي لهذه السيرورة، من ربط حاضر هذه الأيام، بماضيها القريب، سنة 2008، حين كان التدخّل الأمريكي السافر في الانتخابات الرئاسية الكينية (فوز مواي كيباكي، رجل واشنطن، بفارق ضئيل عن منافسه رايلا أودينغا) إلى صبّ المزيد من الزيت على نيران المواجهات الإثنية العنيفة، وإلى استدراج عمليات ‘القاعدة’ الإرهابية.
ولأنّ جذور الإرهاب، أينما استوطنت وضربت عميقاً، لا تنفكّ عن تربتها الاجتماعية؛ فإنّ ظواهره الكينية ارتبطت سريعاً بنزاعات اجتماعية عميقة، تعكس صراعات طبقية مستعصية، بين البؤس والرفاه، والفاقة والفساد، ومنتهى الفقر الشعبي وذروة التكلّف الحكومي. ومن جانب آخر، لم تكن ‘حكاية النجاح السعيدة’، كما استطاب بعض زعماء أوروبا وصف كينيا، عرضة لتهديد صراعات داخلية إثنية وقبائلية واجتماعية وسياسية، فقط؛ بل توفرت أيضاً سلسلة أسباب ذات صلة بسياسات كيباكي الخارجية، الإقليمية والدولية. فالرجل اعتُبر ‘رئيس الغرب المدلل’، و’صديق صندوق النقد الدولي’، و’منفّذ وصفات التقشف’ القاسية التي يصدرها ‘البنك الدولي’، والحليف السائر كالأعمى خلف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في ‘الحملة ضدّ الإرهاب’.
ولا يغيب عن الذاكرة الكينية مقدار الاستخفاف الذي طبع موقف واشنطن من الانتخابات الرئاسية تلك، حين سارع البيت الأبيض إلى تهنئة كيباكي، بعد نصف ساعة أعقبت تنصيبه؛ بل ذهب روب ماكينترف، الناطق باسم الخارجية الأمريكية آنذاك، إلى درجة مطالبة الشعب الكيني بقبول النتيجة (سوف تضطرّ واشنطن إلى التملّص من هذا الموقف الفاضح بعد ساعات، حين اتضح أنّ التزوير كان أشدّ جسامة من أن يُغطى). كذلك لم يكن غريباً أن يسكت الغرب بأسره عن فضائح حكومة كيباكي، التي لم يكشفها أحد آخر سوى جون غيثونغو، الرجل الذي عيّنه كيباكي نفسه للتحقيق في الفساد، فاختار المنفى الطوعي في أكسفورد، بريطانيا، بعد أن ذهبت تقاريره أدراج الرياح. وحين اضطرّ إدوارد كلاي، المفوّض الأعلى البريطاني، إلى استخدام لغة مقذعة في وصف فاسدي كينيا (قال بالحرف: لقد ابتلعوا وابتلعوا حتى تقيأوا على أحذية المانحين الأوروبيين)، كان عقابه الفوري هو الإعفاء من المنصب، وتعيين بديل أكثر تفهماً للإقياء والمتقيئين!
هذا فضلاً عن حقيقة أنّ كينيا كانت ميدان إقامة وتدريبات الـ Africom، القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة الخاصة بأفريقيا؛ رغم أنّ مدينة شتوتغارت، في ألمانيا، هي المقرّ الرسمي لرئاسة أركان هذه القوّات. وهكذا، تكتب ميكيلا رونغ، الأخصائية في الشؤون الأفريقية وصاحبة العملَيْن المميّزين ‘على خطى المستر كرتز: العيش على حافة الكارثة في الكونغو’، و’لست الفاعل: كيف استخدم الغرب وأساء استخدام الدول الأفريقية الصغرى’: ‘لأنها عرضة لاستهداف متكرّر من منظمة ‘القاعدة’، كما أنها ممرّ للمخدّرات الثقيلة المنصبّة على شوارع أوروبا في آن معاً، يرى الدبلوماسيون الغربيون أنّ كينيا بلد لا يعتمد استقرار المنطقة على قوّته أو ضعفه داخلياً فحسب، بل يعتمد عليه أمن البلدان الغربية كذلك’.
ثمة هنا تكرار لسلسلة خطايا (فهي ليست محض أخطاء!) ارتكبتها الإدارات المتعاقبة، منذ أن اكتشفت الولايات المتحدة وجود القارّة الأفريقية، على صعيد الثروات والجيو ـ سياسة، أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. وطيلة عقود أعقبت ذلك الاكتشاف، ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد الذي يغرق في سبات عميق حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، ثمّ يحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتى النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء واجتذاب أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتَيْ ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية. 
وهل ثمة حاجة إلى التشديد على أنّ غزوة واشنطن الصومالية الشهيرة، في عام 1991، لم تكن تسعى إلى اقتفاء أثر ‘القاعدة’ أو مطاردة أسامة بن لادن، بقدر ما شاءت إطلاق مشروع انتداب عسكري يستهدف استئناف ما كان سياد برّي يقوم به لصالح واشنطن، أي ضبط القرن الأفريقي؟ كذلك كانت الغزوة تسير على نقيض صريح، وصفيق تماماً، مع منطوق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 751، الذي منح التخويل بنشر قوّات عسكرية أممية لتنظيم عمليات الإغاثة الإنسانية، لا لشيء إلا لأنّ الرجل المسؤول عن خراب البلد (سياد بري، نفسه) كان ببساطة صنيعة البيت الأبيض. وفي تلك الأثناء كان رجل مثل هنري كيسنجر يفلسف الغزوة على أنها محض ممارسة للعبء التمديني العتيق إياه، المُلقى ـ تاريخياً، حضارياً، سياسياً، واقتصادياً… ـ على عاتق الرجل الأبيض. وأمّا عملياً فقد كانت القارّة تستشرف المزيد من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية، وتخضع أكثر فأكثر لهيمنة مؤسسات كونية لا تشتغل إلا لصالح اقتصاد السوق.
ثمّ أتى ردح من الزمن أجبر الثور الأمريكي على استبدال النجمة السوفييتية الحمراء بالراية الإسلامية الخضراء، أو السوداء هذه الأيام، أو الهلال في كلّ حال (تسهيلاً للأمريكي ذي الوعي المتوسط، ربما، كي يدرك مغزى التوافق بين النجمة الحمراء والهلال الأخضر!). ومنذئذ حلّت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي محلّ ذريعة محاربة الشيوعية، دون أن يتغيّر الكثير في المعادلة الفاسدة العتيقة: لكي تحارب هذا أو ذاك (الشيوعية، أو الإرهاب الإسلامي)، ينبغي أن تساند الطغاة على الأرض، أياً كانت موبقاتهم وجرائمهم. ويبقى أنّ تعَلُّم أيّ شيء من دروس التاريخ كان خياراً غير ممكن، أو حتى غير مطروح على رجالات البيت الأبيض؛ بل ظلّ عند بعضهم رياضة ماركسية ديالكتيكية، غير مستحبة أيضاً، أو مكروهة بالضرورة!
وقبل الولايات المتحدة كان التاج البريطاني قد اكتشف ‘وكر الدبابير’ الصومالية، حين قام السلاح الجوي الملكي بقصف بلاد الصومال عشرات المرّات في عام 1919، لقمع ثورة محمد بن عبد الله حسن بربر (أو ‘الملاّ المجنون’ كما سيصفه أرشيف حروب الإمبراطورية البريطانية)، فلم يفلح التاج إلا في حراثة الرمال. الجنرال إسماي، قائد القوات البريطانية في الصومال آنذاك، كتب في مذكراته يقول: ‘ما تكاد طائرات سلاح الجوّ الملكي تغادر سماء المعركة بعد إلقاء حمولاتها المدمرة، حتى تعجّ الصحراء بالدراويش والهتافات: الله أكبر! الله أكبر! لكأنهم يخرجون من شقوق الصخر وأخاديد الصحراء’…
وللوهلة الأولى، وكما في كلّ مرّة، تبدو المعادلة خرقاء حمقاء ذات نتائج مدمّرة بعيدة الأثر، قبل أن تتكشف عناصرها عن انسجام عالٍ مع معظم المعادلات الأعلى التي منها يتشكّل التفسير الأمريكي لفلسفة ‘الحملة ضدّ الإرهاب’. تلك معادلة تدير الميزان التالي: أغلِقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي الذي يُعدّ المناخات ويصنع ويصنّع ظواهر التطرّف والإرهاب؛ ولكن لا بأس أن تفتحوا، هناك، ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة.
وفي صياغة وقائعية: أغلِقوا ثغور الطالبان في أفغانستان، وافتحوا ثغور ‘المحاكم الشرعية’ في الصومال، أو في ‘صومال ـ ستان’، كما شاع بعدئذ؛ ثمّ أغلقوها في معاقل ‘المحاكم الشرعية’، بعد كرّ وفرّ وعنف وتدخّل عسكري مباشر وغير مباشر، وافتحوا ثغرة جديدة في كينيا، قد لا يطول الوقت قبل أن تستغلّ وقائعها محاكم شرعية من نوع آخر جديد ـ عتيق، فتشتعل كلّ الأسباب الجديرة بإطلاق وانطلاق كوابيس ‘كينيا ـ ستان’، حيث يستوي العنف القبائلي والإرهاب الأعمى، وحيث يشترط واحدهما الآخر!
والمرء يتعثر ـ جيئة وذهاباً، صبحاً ومساءً، في تسعة أعشار ما يُنشر عنسورية الراهنة من ‘تحليلات’ ـ بذلك الصنف من خبراء الإسلام/خبراء الإرهاب (إذْ بات هؤلاء من طينة واحدة، باختصاص متماثل!)، ممّن لم يسجّلوا من مباذل المحاكم الشرعية في المناطق السورية ‘المحررة’ إلا أكذوبة تحريم الـ’كرواسان’، وأغمضوا البصر والبصيرة عن جدل صعود هذه المجموعات، وتعاموا عن المخاطر الأعمق المرتبطة بتجذّرها في تربة سورية وطنية لم تكن في أيّ يوم حاضنة صالحة لها؛ ثم انتظروا أن تتمخض الظاهرة عن ولادة ‘الصوملة’، دون سواها؛ أو صورة طبق الأصل عنها، كما أسسها شيخ شريف شيخ أحمد في مقديشو، سنة 1991!
.. في الغضون، وحتى يأتيك بالأخبار مَن لم تزوّد، هلّت أحدث طبعات ‘الصوملة’ من نيروبي، كينيا؛ وليس من حلب، أو الباب، أو اعزاز، أو سراقب… 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق