بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 سبتمبر 2013

خواطر حول الأنوار العربية - هاشم صالح

أولا هل يوجد شيء اسمه قضية عربية؟ يحق لنا أن نشك في ذلك. هناك قضايا عربية متشعبة، كل بلد له قضيته أو مشكلته. بل وحتى داخل البلد الواحد أصبحت هناك قضايا عديدة بتعدد الفئات العرقية أو الدينية. كل واحد يبحث عن خشبة خلاص لكي ينجو بنفسه من غرق عام يكاد يشمل الجميع. لماذا لم يستبق الفكر العربي على كل هذا التشرذم والدمار؟ لماذا لم يرَ مسبقا كل هذا الانهيار؟ لأنه مؤدلج أكثر من اللزوم، لأنه لا يمتلك الأدوات المنهجية والمصطلحية، لأنه في واد والواقع في واد آخر. أين هم الرؤيويون الكبار؟ في الواقع إن طه حسين رأى ذلك قبل أن يموت ولذلك غادرنا قائلا: «أودعكم بالكثير من الألم والقليل من الأمل». عندما انخرطت قبل ربع قرن في نقل فكر التنوير الأوروبي إلى الساحة العربية أو نقل الفكر العقلاني عن الإسلام صرخوا في وجهي قائلين: يا أخي نحن تجاوزنا كل هذه الأشياء من زمان! نحن أصبحنا تقدميين مستنيرين، فلماذا تعيدنا إلى هذه الأشياء القديمة التي عفّى عليها الزمن؟ كادوا يقولون: نحن أرقى من فرنسا وسويسرا والدنمارك. نحن هضمنا كل الثورات العلمية والفلسفية والدينية وكفى الله المؤمنين شر القتال. وربما أضافوا: الفكر العربي لا يقل حداثة عن الفكر الأوروبي وجماهيرنا لا تقل استنارة عن جماهير أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية. ماذا تستطيع أن تفعل أمام منطق أعوج كهذا؟ كيف تواجه مكابرات من هذا النوع؟ إما أن تستسلم وإما أن تقاوم حتى لو أصبحت وحيدا مهمشا. في الواقع لست وحيدا؛ فالعديد من المثقفين العرب يمشون في هذا الاتجاه مثلي وأكثر مني. والتنوير أصبح شعارا جماعيا للثقافة العربية. وأعتقد أنه قضية القضايا بالنسبة للعقود المقبلة. إنه القضية التي تجمع بيننا على اختلاف مذاهبنا وطوائفنا. وبالتالي فهناك قضية عربية كبرى تشمل الجميع. ولكنها لم تعد آيديولوجية سياسية وإنما فكرية فلسفية بعيدة المدى.


لقد حصلت في الأسبوع الماضي وحده ثلاثة أحداث كافية لتشويه صورتنا كعرب وكمسلمين إلى أجل غير مسمى، هذا إذا كانت بحاجة إلى تشويه أصلا! أولاها مجازر بوكو حرام في نيجيريا، وثانيها مجزرة نيروبي في كينيا، وثالثها مذبحة كنيسة بيشاور في الباكستان. ثلاثة تفجيرات عمياء متلاحقة ترتكب باسم الدين الحنيف زورا وبهتانا. ولكن لا يكفي أن نقول ذلك ونكرره كالببغاوات في كل مرة. فالواقع أن هذه المجازر الطائفية سوف تستمر ما لم يحصل التنوير العربي الإسلامي وينتشر في أوساط الجماهير وليس فقط النخب. ينبغي العلم بأن المسيحية الغربية تعرضت لامتحان التنوير ودفعت ثمنه عدا ونقدا منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم. لا تحصى المؤلفات التي تتحدث لك عن تفكيك الأصولية المسيحية والفكر الطائفي والتعصب الأعمى. إنها بالمئات أو الآلاف في كافة اللغات الأوروبية من فرنسية وإنجليزية وألمانية وإيطالية.. ولذلك ما عاد أحد يرتكب العنف باسم الدين المسيحي. محاكم التفتيش أصبحت وراء ظهورهم وكذلك المجازر الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية التي دمرتهم وأنهكتهم. كيف حصل هذا التطور الكبير؟ كيف تحقق هذا الإنجاز الذي يشبه المعجزة؟ هذا ما ينبغي أن يطرحه المثقفون العرب اليوم على أنفسهم بدلا من شتم الغرب والشرق وغض الطرف عن كل هذه الأعمال الإجرامية وكأنها ثانوية. ثم يستغربون قائلين: لماذا يحتقرنا الغرب ويهمل قضايانا؟ لأنهم يعرفون من نحن بالضبط! ويعرفون مستوانا الفكري والعقلي أيضا. كل ثقافة لا تحاسب ذاتها، كل تراث لا يراجع نفسه أو ينتقد نفسه يصبح خطرا على نفسه وعلى الآخرين. إنه يتحول إلى جمود قاتل أو تعصب أعمى. وبالتالي فينبغي تفكيك العقلية الطائفية كما فعل فلاسفة الأنوار في أوروبا. هنا تكمن قضية العرب الملحة. هنا تكمن قضية القضايا: ألا وهي تنوير العقول عن طريق إعادة قراءة التراث على ضوء أحدث المناهج التاريخية. هذا ما فعله فلاسفة الغرب تجاه تراثهم المسيحي فكان أن تجاوزوا التفسير التكفيري والظلامي القديم للدين. فلماذا لا نستفيد من تجربتهم؟ هذه نقطة أهملناها كثيرا بسبب الصراع ضد الخارج. وقد آن الأوان لإعادة التوازن إلى الساحة الثقافية العربية عن طريق الاهتمام بالصراع ضد الداخل. بعد الجهاد الأصغر لم يبق إلا الجهاد الأكبر! وأقصد به نقد النواقص التي تعاني منها الشخصية العربية الإسلامية وإصلاح عيوبها وتقويم اعوجاجها وانحرافاتها. هذه نقطة ما عاد بالإمكان السكوت عنها. ينبغي العلم بأن القراءة الحرفية الجامدة لبعض نصوصنا التراثية تؤدي حتما إلى ممارسة العنف والإرهاب. إنها تخلع المشروعية على سفك الدماء بشكل عشوائي كما حصل في نيجيريا أو كينيا أو الباكستان. وقل الأمر ذاته عن المدارس الطالبانية وبرامج التعليم الظلامية التي لا تزال سائدة في أنحاء شتى من العالمين العربي والإسلامي. فهي أيضا تؤدي إلى كره الآخر واستئصاله إذا أمكن. ينبغي العلم بأن بعض النصوص التراثية تحتوي على مقاطع تحلل العنف وأخرى تحرم قتل النفس وتدعو إلى السلام. وهدف الدراسة التنويرية إذا ما حصلت في العالم العربي يوما ما هو تحييد مقاطع العنف عن طريق ربطها بسياقاتها التاريخية. المقصود اعتبارها عرضية، آنية، مرتبطة بظروف عصرها على عكس آيات التسامح والرحمة والغفران. أيا يكن من أمر فإن علماء الغرب والشرق أصبحوا متفقين على ضرورة أن يمر المسلمون بالمرحلة التنويرية مثلما فعل غيرهم لكي يضعوا حدا لهذه الممارسات التكفيرية الإرهابية التي سوف تخرجنا من مسرح التاريخ إذا ما استمرت. لن يحترمنا أحد بعد اليوم ولن يقيم لنا وزنا. وبالتالي فمعركة المستقبل، أو أم المعارك إذا شئتم، هي تلك التي ستنشب بين التفسير التنويري للتراث والتفسير الضيق الظلامي الذي أصبح عالة على العرب والمسلمين أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق