بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 سبتمبر 2013

سلطة ‘البابا’ محمد الهاشمي


 بعد أن كان التوصيف السياسي بعيدا عن التعقيد في واقع دول ما بعد الاستعمار الأوروبي، يبدو الآن أن أي توصيف دقيق للأحداث الراهنة هو أبعد ما يكون عن الاتفاق. هذا الأمر وفر في الاصطلاحات النفسية وصفا أكثر عمقاً وأقل جدلاً- لأي مشهد يبدو في ظاهره شيئا وهو في حقيقته شيء آخر.
تزخر أحداث المنطقة وواقعها السياسي بمشاهدات تجعل من علم النفس مادة إجبارية لمن يريد أن يفهم ما حدث ويحدث، خاصة أن تحدي الثوابت والواقع خسر جولته بالضربة القاضية مؤخراً، وأيضاً لأن علم النفس يبحث دائما عن رؤية الصورة وراء الصورة.
أي مجتمع سياسي ما هو إلا انعكاس لصورة المجتمع المدني الذي يقوم عليه، ويبدو احتمال أن يحدث العكس، أي أن يتحول المجتمع المدني لانعكاس ناتج عن المجتمع السياسي، أمراً عصياً وأقرب للمستحيل.
بفعل الثورات، كان هناك رهان أمريكي غربي على الإسلام السياسي وإمكانية أن يطرح فكرة الديمقراطية ويطبقها بين العرب، من خلال خطاب ديني ‘بابوي’ يروج لها ويصعد من خلالها. بعكس المتوقع، أسفرت التقلبات الأشد عنفاُ في مصر وسورية مؤخرا عن قناعة بأن فرض الديمقراطية الغربية لن يجدي نفعا في مجتمعاتنا.
لقد تشكلت مجتمعاتنا منذ عشرات ومئات السنين على مبدأ الرعي الأبوي، أو السلطة الأبوية، أو ما يسمى في علم النفس Paternalism وصفٌ للرعاية الشاملة للفرد والجماعات من جانب شخص ذي نفوذ أو سلطان، ومن ناحيته اللغوية فهو وصف الأبوة المقابل للأمومة. إسقاط هذا الاصطلاح على السياسة قديم جداً بقدم الحضارات، لكن التكثيف الذي يعيشه اليوم لمواجهة طموحات الحرية يستحق الملاحظة.
لقد وجهت الأنظمة المستقرة في المنطقة، وتلك التي انقلبت على الثورات، رسالة شديدة اللهجة لداعمي الديمقراطية. الرسالة باختصار: إن الأب العربي مستعد لكسر أبوية أمريكا عليه من أجل أبوته على الشعوب. شيء يشبه انقلاب الأب على الجد من أجل سلطته على الأبناء.
يبدو أن أمريكا أفاقت من صدمتها الآن، وهي تبحث على مدار الساعة عن نموذج سياسي جديد لتدعمه بدلاً من الديمقراطية الأمريكية وأناركيتها المتمردة، التي فشلت في كسر جليد التعقيد السياسي للمنطقة، ويبدو أنها وجدته في سلطة العسكر تارة والدول العلمانية الثيوقراطية – الأوتوقراطية الثرية تارة أخرى، وكلاهما يجيد لعب دور الأب بامتياز، وهو متمرس بخبرته الطويلة في ذلك.
اللافت في مصطلح ‘الأبوية’ أنه يراعي معنى الوصاية حرفيا، وهي وصاية تبرر للقسوة وتمهد لقبولها دائماً. هذا يجعل الأبوية بديلا قوياً للسلطة الدينية، بل انها الآن أكثر قدرة على استخدام الخطاب الديني- السلفي مثلاً- لحماية تسلطها. الأبوة هي المبدأ الوحيد الذي حاول طرفا صراع ‘الربيع′ استخدامه، ففشل ‘الإسلام السياسي’ فيه، ببساطة..لأنه حديث عهد بالأبوة.
إرهاصات الأبوة على وعي مجتمعاتنا السياسي يبدو أخطر مما يجب، فهي في صورتها الأسرية تتقبل التعسف والسادية اجتماعياً ودينياً، مما يجعل من انعكاسها على المجتمع السياسي أشبه بالقربان أو الانتحار الطوعي المهين. كثيرا ما ينتقل طغيان الأب إلى أحد أبنائه فيكون سفيراً له في قمع بقية إخوته، باسم حماية سلطة الأب. في الوقت نفسه كثيرا ما يستجيب الأبناء لهذا القمع ويقبلونه على علاته، لأنهم يعتقدون أنه يأتي من سلطة ‘فضائلية’ تهتم بمصالحهم.
الفارق الوحيد الذي أستطيع تلمسه بين الأبوية المجتمعية والأبوية السياسية، هو أننا نخفض ‘جناح الذل’ للأب ‘من الرحمة’، أما في السياسة فإننا نخفض أجنحتنا ورقابنا خوفاً وطمعاً مهما حاولنا إقناع أنفسنا بغير ذلك. نحن نخاف أبانا لأننا معتمدون على رعايته، وهو يخاف أن تضيع هيبته وسلطته علينا، وبخوف على خوف، تتعاظم التوترات ويكثر العنف وتشيع الغوغائية ويسفر كل تمرّد عن جريمة، وينتج عن كل ذلك المزيد من الخوف وقود الخضوع وذريعة الاستبداد.

قد تكون الأبوية الأسرية هي الأساس في كل تخلفنا الذي نتج ليطال السياسة، وهذه ليست دعوة للأبناء أن يتمردوا على آبائهم حتى نتنفس الحرية السياسية يوما ما، لكنها بالضـــرورة دعــــوة لأن نفهم السياسة كفهمنا لعـــــلاقتنا بذوينا، ما دام وعي الشعوب بالأبوة يفــــوق وعيهــــا بإنسانيتها وحريتها وحقوقها، على الأقل إلى أن نملك الوعي الحقيقي، الذي اشترط الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل غيابه حتى يحضر الأب بالعصا والصولجان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق