بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 5 سبتمبر 2013

‘راعي الفراغ’: أسئلة الذات والعزلة والكتابة محمد العناز

تراهن التجربة الشعرية الجديدة على الاختلاف والمغايرة، والبحث عن متخيل جمالي يتيح لها الإبحار في متاهات متشابكة وعميقة، بهدف الخروج بنص شعري يتسم بالتفرد والغرابة. وتجربة الشاعر عبد الجواد العوفير في ديوانه الصادر عن بيت الشعر (ط1، 2010) هي إحدى التجارب الشعرية المغربية الخصبة والمليئة بالبحث والسؤال والتنقيب في خبايا الذات والوجود لتأزيم المواقف واستشكال الحالات والسخرية من الذاكرة والحاضر، والتفكير في اليومي والعابر.

إن ديوان راعي الفراغ يفتح القصيدة على مداخل كثيرة ومتنوعة، لكننا سنحاول ضبط علاقة القراءة بالديوان من خلال ملمحين، ملمح الذات، وملمح القصيدة، ولعل العلاقة القائمة بين الذات والقصيدة، قد تبدو علاقة توافق ومصالحة باعتبار أن الذات تتمثل أسئلتها على مستوى التحقق الفعلي والمتشكل اصطلاحا في القصيدة، إلا أن علاقة الذات بالقصيدة في ديوان راعي الفراغ هي علاقة جد ملتبسة، لهذا سنوجه قراءتنا لكشف هذا الالتباس.
1 ـ سؤال الذات والعزلة:
القصيدة تعبير جواني عما
يقلق كينونة الشاعر ويربك نظرته للوجود والعالم، ويؤزم علاقته بالذاكرة، ومن ثمة تصير القصيدة عبارة عن تيه في الذات للكشف عن خباياها الملتبسة، وتحديد علاقتها بمحيطها المفترض، وموقفها الثائر على الرتابة والتكلس. والشاعر عبد الجواد العوفير لا يفتأ التعبير عن هذه المعاني بصيغ وطرق شعرية متباينة باحثا عن معنى ذاته في القصيدة والطبيعة، مشيدا بعزلته، محتفيا بفردانيته وفق طقوسه الخاصة المرتبطة بالليل والحانة والبحر والمرأة والكتابة، يسعفه في ذلك خياله الخصب وصوره القائمة على المفارقة والسخرية واللاتحديد:
يقول الشاعر في قصيدة لا تأت أيها النسيان:
وأنا الآن أضمد ليلا مجروحا
وأغلق باب الغرفة
كي لا تتسلل الكلمات
إلى الداخل
للعتمة رائحة الموتى
والأحلام مهددة
بليل حزين
إن الشاعر وهو في رحلة القبض على المعنى المنفلت، يصطدم بجدار سميك، هو جدار الليل، ومعلوم أن الليل مرتبط بكل ما هو خفي ومستور، إنه الوحدة والعزلة والفردانية، والشاعر يختار هذا العنصر الطبيعي ليس من أجل رصده كظاهرة طبيعية لها إفرازات نفسية، وإنما من أجل تحويله إلى مرايا تعكس نفسية الشاعر المتأزمة، وهكذا يورط الشاعر نفسه في الفعل الشعري عن طريق ضمير الذات، ليعلن عن فعل التضميد ويسنده إلى ليل مجروح، حيث يرتفع الشاعر بلغته من صورتها الطبيعية المعيارية إلى صورة انزياحية قائمة على الحذف والتركيب. الشاعر هنا يتماهى مع الليل، ويقوده إلى غرفته كي يضمد جراحاته، وبعدما يغلق الشاعر بابه مختليا بالليل، مانعا أي تسلل للكلمات، يلمح إلى رائحة الموتى التي يشمها في العتمة. هكذا يحول الشاعر ما هو معنوي إلى ما هو مادي، ويحول ما هو معنوي إلى ما هو مادي، فالكلمات متسللة، والأحلام مهددة، والعتمة تفوح منها رائحة الموت.
إن الليل مجرد معادل للعزلة والوحدة، وجراحات الليل هي جراحات الذات، والشاعر مروض حكيم للمعاني، ومن خلالها يشيد عالما يقوم على الدهشة والاختلاف. الشاعر يصد باب الغرفة ليؤزم وضعه مانعا الذكرى من التسلل، لكن الموت ينبري باعتباره إشكالا وجوديا يكشفه في العتمة وأوراق الخريف، وحتى حينما تطغى الذاكرة على عزلة الشاعر، فإنه سرعان ما يكتشف خيانتها وهي تزوره في منتصف الليل، إن الشاعر لا يكاد يستدعي ذاكرته إلا لينساها مفضلا السقوط عوض التذكر، وعندما ييأس من السؤال يفتح قصيدته على المستقبل منتظرا قدوم الظل، إلا أنه ظل لا يحمل أي إجابة لأن جرح الليل مازال ينزف:
سأنتظر قدومك أيها الظل
أزهارك موحشة
مثل القلب
شتاء الكلمات أطول
من صيف الحب
الألم ربيع
الألم النازف من جرح الليل. ص64. 
إن ذات الشاعر السابحة في الفراغ تبحث عما يمكن أن يسكن ألم الوحدة والعزلة، لهذا يلتفت الشاعر الوحيد إلى الأشياء الهامشية باحثا فيها عن إجابة لأسئلته، وهكذا يواجه الشاعر العنكبوت المتربص في إحدى زويا الغرفة، مقيما معه علاقة أنس ومصالحة:
وهذا العنكبوت الوديع
في زاوية الغرفة
ينسج خيوطه على وحدتي
ويلقي التحية 
على العزلة 
بقبعتها السوداء
ووجهها المبهم
دخلت من باب
تركته للريح 
والأشباح. ص44
الشاعر يملك عدسة دقيقة يتجول بها في أرجاء الغرفة، ليركز على العنكبوت الوديع، وهو ينسج خيوطه الدقيقة على وحدته ويحيي عزلته التي تلبس قبعة سوداء.. إن المعنى الذي يبحث عنه الشاعر هو الوحدة والعزلة، واختياره للعنكبوت لم يكن اعتباطا أو صدفة، وإنما مقصدية الشاعر تنبع من انطوائية العنكبوت وعزلته في هوامش الغرف، وإذا كان العنكبوت يقتل عزلته بنسج خيوط تحلم بتصيد الحشرات، فإن الشاعر وهو في غرفته وحيدا يتماهى مع العنكبوت ناسجا قصيدته التي نتورط في نسيج معانيها. وهكذا تلتقي ذات الشاعر المنعزلة بصورة العنكبوت، جاعلا من هذا الأخير فاعلا في بناء وحدة الشاعر مسببا لها بهدف خلق صور شعرية قائمة على المفارقة والسخرية، كما يقيم الشاعر للعزلة بورتريها يلبسها فيه قبعة سوداء، راسما ملامح مبهمة على عادة السرياليين.
إن الشاعر عبد الجواد العوفير تمكن عبر مقاطع شعرية مختزلة ومكثفة، وصورة قائمة على التلاعب حينا والسخرية حينا آخر أن يؤسس لمفارقته مع الفراغ كينونته، محتفيا بفردانيته وأسئلتها، مستدعيا كل ما هو عابر ومهمش لينشدوا معزوفته الرائعة.

2 ـ سؤال الكتابة وموضوعة القصيدة:
لعل من بين الأساليب الحديثة في التجربة الشعرية الجديدة، هو اتخاذ القصيدة وما يدور في فلكها موضوعا للقصيدة ذاتها، فالشاعر وهو يؤسس لعلاقته باللحظة الشعرية يتخطى الواقع ليفكر في إشكال القصيدة سواء كإشكال جمالي أو ذاتي أو نفسي بحسب وضعية الشاعر وثقافته، وعبد الجواد العوفير شاعر لم ينزح عن هذا الأسلوب الحديث، وإنما تمادى في تمثيله وإعادة تشكيله ورسم حدوده وتخيل علاقاته، فإذا تأملنا نصوص الديوان سنجد أن عبد الجواد العوفير كان حريصا على استدعاء القصيدة كبنية تفكيرية داخل النص الشعري، وذلك عن طريق الاستعانة بجملة من المسميات كالكتابة، والكلمات، والشاعر، والشعر والقصيدة، وكذا الاستعانة بأسماء الشعراء. وهي كلها مكونات تتداخل فيما بينها لترسم صورة تجربة شعرية تفكر بشكل ما في القصيدة وما يدور في فلكها.
إن جردنا الإحصائي لقصائد الديوان يبرز هيمنة عنصر الشاعر عن باقي المكونات، فهذا الملفوظ يحضر بشكل متواتر في الديوان، يصل إلى حوالي ستة عشر مرة، وتحضر في الغالب مضافة إلى صفة تميزها، وسنتخطى هذا الجانب الإحصائي لنحاول فهم الدلالة الرمزية لهذا الحضور المكثف لأسئلة الشعرية. 
تحضر عبارة الشاعر في الديوان مردوفة بملفوظ دلالي هو الحزن، وذلك في قول الشاعر:
العالم ضيق على شعراء حزانى ص59
وقوله:
أذكر سنابل تنمو
في غياب المعنى 
وشعراء حزانى رغم
ملائكة خضر
في المقهى المسافر.ص109
إن قدر الشاعر في تجربة عبد الجواد العوفير أن يكون حزينا كئيبا، فالعالم الرحب ضاق على شعراء حزانى، والضيق هنا يقابل العزلة، فكلما انعزلت الذات الشعرية إلا وأحست بضيق العالم ومحدوديته، مما يجعل الشاعر في حالة قلق وبحث عن عالم جديد هو عالم الكتابة، إلا أن الشاعر يؤكد هذا المعنى في مواطن أخرى وبملفوظات مختلفة، بل إن الشاعر يتنكر لهؤلاء الشعراء المساكين:
حيث كائنات بوجوه ممسوخة
تقرأ بوقار 
قصائد شعراء 
لم يخلقوا بعد .ص54
إن المسخ هنا ارتبط بالمؤجل، فهذه الكائنات الغربية والتي تصنع لنفسها وقارا تقرأ قصائد غير موجودة، إن الشاعر مغرق في تمثيل سخطه على شعرية مؤجلة مرتبط بالمسخ والمؤجل واللامفكر فيه، وهو المعنى الذي يعيد إنتاجه وفق نسق ملفوظي ومعجمي ودلالي مختلف إلا أنه يتماهي ويتداخل مع ما رأيناه سابقا:
كلمات لم أكتبها
على شفاه شعراء لم أخلقهم
فالشاعر يورط ذاته في القصيدة، وينفي تمام النفي كل علاقة قد تجمعه بكتابة القصيدة، وبمشهد ولادة الشعراء، وكأن الشاعر هنا يكفر بالشعر ويسلم شراعه للفراغ كي يقوده إلى حقوله الخصبة، والشاعر بهذا النفي ينتج معنى، ووراء هذا المعنى تتجسد القصيدة.
وإذا كان الشاعر قد قسا على الشعراء وتنكر لولادتهم، فإن التنكر نفسه مارسه على ملفوظا آخر وهو الشعر:
وكيف أكتب شعرا 
يغتال نفسه بعد كتابته مباشرة. ص63
فالشاعر يستفهم، وفي استفهامه نشم رائحة الإنكار، إنكار تورط الذات في كتابة شعر يقتل نفسه بنفسه بعد ولادته مباشرة، الشعر الذي لا يموت موتا إراديا وإنما يموت بسبق الإصرار والترصد لكن القاتل هو ذاته، إنه صورة دموية تحيلنا إلى مشهد مرعب نتصور فيه الشعر كمولود صغير يمارس الجريمة على نفسه، وهكذا يتحول الشعر من الوجود إلى العدم، ويتحول من التحقق إلى الغياب، ومن المفكر فيه إلى اللامفكر فيه، ومن النقاء إلى الاتساخ، فالشاعر يحقق كل هذه المعاني في بنى لفظية مكثفة على مستوى الإنتاج التلفظي لكنها قوية على مستوى الإنتاج الدلالي، وهو ما يحقق قيمة النص الشعري وجماليته.
إن التنكر للشعراء، وربط الشعر بالانتحار، يفتح القصيدة على أفق الفجيعة، وكأن الشعر هنا لعنة، وهو بالفعل لعنة حينما يتسلل مع الهواء البارد ليس ليبدد فراغ الشاعر وإنما ليصنعه:
وكيف يتسلل هذا الشعر اللعين مع الهواء البارد
ليخلق بخربشاته
على جدران الفراغ
فراغا أزرق. ص91
فالشاعر يحول خطاب القصيدة إلى اللعنة المتربصة به، حيث تسهم هذه اللعنة في قتل زمن الشاعر وإدخاله زمن الفراغ، لتتحول هذه اللعنة إلى فجيعة:
انفجار عمارة بحي الشعراء 
السبب: شاعر ضاجع أشعاره. ص93
هكذا تشتعل الفجيعة في خطاب القصيدة محرقة آفاقها مؤجلة ولادتها، وحاكمة على الشاعر بالتعاسة والحزن. إن عبد الجواد العوفير يتقن تغليف نصوصه بملمح درامي سينمائي، قائم على الرمزية، فالانفجار الحاصل في حي الشعراء مرده إلى الجرم الذي اقترفه أحد الشعراء حينما زنى مع قصيدته، وقد يكون هذا الانفجار انفجارا رمزيا يعبر عن ولادة المعنى ولادة جديدة، فالنص يحتمل التأويل وإعادة القراءة وتبقى كل قراءة كما يقولو جاك ديريدا هي إساءة لقراءة غائبة، لن ندخل في هذه الإشكالات الهيرمونيطيقية، وإنما سنسترجع كل ما خلصنا إليه.
يشكل منعطف القصيدة داخل القصيدة في الديوان احد الملامح الجمالية البارزة والتي لا يمكن تجاهلها، فالديوان مليء بالفجوات التي تستدعينا لنسقط في فخاخها، وفخ القصيدة داخل القصيدة، أحدها لكنه أكثر قوة واشتدادا، وذلك لأن عبد الجواد شاعر ماكر يحاول أن يخدعنا بموقفه تجاه الشعر والشعراء، إلا أن تلاعبه سرعان ما ينبري حينما يمنح الحياة المطلقة للشعراء ويجعلهم العين الساهرة على الكون، وكأنهم سدانته والمكلفين بحماية تعاسته.
إن ديوان راعي الفراع هو ديوان يقوم على جعل المسافة القائمة بين الذات الشاعرة والقصيدة مسافة ملتبسة، فالشاعر يبدو وكأنه يهاجم الشعر والشعراء، لكنه في الواقع يشيد مدينته على الفراغ الذي يؤسس لشعرية الاختلاف والتفرد. مستغلا ثقافته الإنسانية ومرجعياته المتنوعة لبناء نص نوعي. ويمكن القول إن هذه التجربة تسير في خط مختلف ومتفرد يتقاطع مع ما مضى ويؤسس لمشروعه الشعري الخاص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق