بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 10 مايو 2014

زوايا الحمرا - زاهي وهبي

أمس كانت لي تجربة أولى بقراءة الشعر في مقهى أو حانة في شارع الحمرا البيروتي الشهير، شارع يذكّر بالأوج اللبناني الغابر وبحكايات ذهبية وصلتنا بالتواتر عن أسلاف عاشوا حقبتي الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم وذاقوا لذة الحياة في مدينة ما كانت تنام بفعل صخب السهارى فأمست بين ليلة «وضحاياها» لا تنام بفعل التقاصف
والتقاتل وأزيز الرصاص قبل أن تُعلّق الحرب أو تُوضع على الرف الى حين تدعو الحاجة الاقليمية أو الدولية.
...ومع ذلك لم يفقد شارع الحمرا كل بريقه، بل لعله في السنوات الأخيرة استعاد الكثير من صخبه وضوضائه بفعل أسباب متعددة منها خفوت وهج وسط المدينة وعودة الكثير من المقاهي والحانات اليه فضلاً عن توافد أعداد كبيرة من الأشقاء السوريين وبينهم فنانون وأدباء انضموا الى نظرائهم اللبنانيين في ارتياد الشارع الشهير فمنحوه جميعاً مزيداً من النبض والحياة وجعلوه عامراً بحركة الناس ليل نهار.
صحيح أن ثمة مقاهي معروفة ومحفورة في الذاكرة الجماعية للبنانيين والعرب قد أُقفلت وتحولت محال ألبسة أو مطاعم وجبات سريعة، وقد سال في رثائها حبر كثير، لكن في المقابل ثمة مقاهٍ أخرى شرعت أبوابها ونادت روادها أنْ تعالوا ليس فقط الى فنجان قهوة بل الى «وجبات» شعر وموسيقى ورقص وتشكيل وسواها من نشاطات ابداعية كانت وما زالت تميز الشارع الشهير عن بقية أنحاء العاصمة اللبنانية التي كما قلنا الأسبوع الماضي في هذه الزاوية تسعفها قوتها الروحية على التحدي والانتصار والانحياز الدائم لحق الحياة.
دائماً نقول إن العصب الابداعي لبيروت ساعدها في الانتصار على الموت والخراب وأبقاها مدينة حية رغم أنف الحروب، وهل أجمل من تحوّل مقاهيها وحاناتها فسحات ابداعية تتعالى فيها القصائد والنوتات وتتزين جدرانها بتواقيع التشكيليين وتجاورها الأعمال المسرحية في هذا المسرح أو ذاك، كلُّ هذا ما كان ليكتسب معناه المضاعف لولا أنه علامة من علامات التحدي والاصرار على الحياة في مواجهة ما يعتري المدينة من عمليات قتل وتشويه بفعل الجشع العقاري الذي غيّب أو يكاد معظم المعالم التراثية ماحياً جزءاً كبيراً وحيوياً من ذاكرة المدينة التي تقاوم بالشعر والرسم والمسرح والرقص والموسيقى والغناء وسواها من فنون ابداعية تمنحها نكهة شهية مملحة برائحة بحر بيروت الذي تكاد تحجبه ناطحات السحاب.
ليس شارع الحمراء ومتفرعاته مكاناً للتسوق والتنزه والترفيه فحسب، انه أولاً مكان للحياة، فيه تتجلى صيغة العيش اللبناني بتشاكيلها كافة، فالتنوع المجتمعي الصامد فيه لا يزال يمنحه طابعه المديني ولا يحوله الى غيتو آخر من الغيتوات اللبنانية الكثيرة، ولقد شاء قدري أن أحيا في هذا الشارع لأكثر من ثلاثة عقود تمثل أكثر من نصف عمري لأكون بمحض القدر شاهداً على تحولاته وتبدلاته واصرار أهله ورواده على بقائه فسحة للحياة والابداع، عرفته في أسوأ أيامه زمن حروب المليشيات والأزقة والتذابح الأهلي والتقاصف العشوائي، وشهدت قيامته وعودته شرياناً أبهر لمدينة عصية على الموت، لذا كانت قراءة الشعر في احدى حاناته المسماة «زوايا» متعة خالصة ولحظة حميمة غدت فيها القصيدة بطاقة تعارف مع كثيرين جاؤوا من أماكن بعيدة ومختلفة ليتحلقوا حول نار الشعر وليحظوا بجمرته المقدسة في زمن بالغ البرودة والصقيع.
قرأتُ شعراً في معظم عواصم ومدن الوطن العربي وفي غالبية المدن والقرى اللبنانية لكن لقراءة الشعر في شارع الحمرا طعم خاص لا تستطيع الكلمات وصفه أو ايجازه، هنا لا تعود القصيدة مجرد بديع وبيان وتشابيه واستعارات بل تغدو سلوكاً ونمط عيش وطريقة تفاعل مع الوجود والكائنات وجواز مرور الى الآخر الذي لا بد ولا غنى عنه مهما كثر التنظير والنظريات، ولعل بيروت تستعيض عن غياب المساحات الخضراء والحدائق العامة وأمكنة التلاقي الأهلي والمجتمعي بفسحات مشجرة بالشعر والقصائد والنوتات.
تحية، بل ألف تحية لأولئك الشباب القابضين على جمر أيامهم المصرّين على ابقاء شعلة الكلمة متقدة وصوتها أعلى من الدويّ والأزيز وأقوى من فحيح الفتن وسمومها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق