بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 مايو 2014

◘ حسين ماضي: جميع الألوان تصلح للفرح - زهرة مرعي

حسين ماضي مستعاداً في 800 عمل فني، انتشر فكراً وأسلوباً ورؤيا في مركز بيروت للمعارض. في هذا المعرض الضخم تألق الفحم بين الأكواريل والباستيل والكولاج، وكونت الأعمال المحفورة ركنها الخاص، أو هي
تمازجت بليونة مع المشاهد المرتفعة على الجدران. معرض احتضن انجازات يصعب الاحاطة بها من خلال نظرة سريعة، إذ
هي تبدأ مع الشرارات الأولى للفنان منذ سنة 1959 وصولاً إلى تاريخنا هذا. هي تكاد تكون سنواته الخمسين في تطويع اللون والمعدن والخشب لأهوائه الجمالية. وهكذا استطاع تكوين أثر جلي في عالم الجمال البصري، وصار لحسين ماضي باعه المؤثر في الفن المعاصر، وفي تاريخ وحضارة لبنان الفنية. سر حسين ماضي تلك البساطة التي تحمل الناظر إلى التأمل في أفكاره الظاهرة والمخفية. فنان خاض في بحر شاسع من اشكال الفن، سبح بمهارة العالم العارف بما يريد سواء من خلال الرسم أو النحت أو الكولاج.

المعرض الذي بدأ في نيسان/ابريل ويستمر حتى الأول من حزيران/يونيو حمل عنوان «حياة بلا حدود.. استعادة من 1959 إلى 2014» دعا إلى اليه كل من مركز بيروت للمعارض وعايدة شرفان، احتفاء بماضي. حجم كبير من الأعمال انتصب في مكان فسيح، يستقبل قاصديه بمجسم معدني لحصان متوثب. وقد تعمد الفنان في جنبات متعددة من معرضه أن يكون له موضوع واضح ومحدد المعالم، كأن يجمع حول لوحة زيتية لامرأة عارية مجموعة من العاريات بالفحم الأسود حيناً والأحمر حيناً آخر. تلاعب بالعاريات بهدوء ونشرهن في أكثر من ركن وفي وضعيات لا تحصى. لفت في العاريات التحدي لدى بعضهن، ألم الوحدة، والمرأة المكبلة بحلقات من الرأس حتى القدمين، فهل هو زمن الاسكات القهري أم زمن الانتفاض؟ لم يترك ماضي العارية بحالها وبتصريح مبطن وموقف معلن انتصبت لوحة لعارية أخّاذة مع مجموعة مختارة من لوحات صغيرة الحجم لفاكهة وخضار. 
وكما تلاعب حسين ماضي بالعاريات وطوع ما في داخلهن ليصبح خطوطاً ناطقة، كذلك بقي مسكوناً بالحبر الصيني في موضوعات متعددة. شاكس قلمه مع القطط. وذهب في رحلة بوح ذاتية مع وجه حسين ماضي في مراحل خمس آخرها عمره السبعيني. في افكار ماضي حضور دائم للروح، للبشر وللحياة. الانسان موجود في اعماله بشكل جلي. هو يميل إلى اللوحة المأهولة بالنبض، الناطقة المعالم. لكنه تجلى بقوة حين راح نحو الأشكال التكعيبية والهندسية. وفي تلك الأعمال كانت ثمة توازنات لونية لأشكال هندسية يمكن التوقف عند دقتها وتمايزها.
طوع حسين ماضي المعدن والخشب والجفصين، أحيا تلك المواد وبث فيها الروح والحركة. حتى مع تلك المنحوتات تلمسنا عن قرب همس المرأة الحورية، وبأس الحصان الشغوف بالحياة وقوته. وكان له تجريد الأشكال في منحوتات معدنية أخرى متعددة.
حسين ماضي سيد اللون الواضح في لوحاته، زنّر أعماله بأبعاد زمانية ومكانية، مما أضفى على المتلقي متعة ملموسة، وتفكراً بمقاصد لوحته وما يريده منها. ولا شك بأن ماضي يمتلك غزارة واضحة في تقديم الموضوع نفسه بعشرات الأفكار، كالعاريات، والمرأة بشكل خاص. أما الحصان فله مع ريشة ماضي حكايات تقدير وعشق عتيق. 
بمناسبة هذا المعرض الضخم كان لقاء مع حسين ماضي في محترفه المشرف على الجامعة الامريكية وبحر بيروت. نسأله:
٭ استقبلت زوار المعرض بجملة فلسفية: هكذا قرأت منطق أبجدية التكوين، الشكل المفرد المتجلي مع تباين: العدد، الوضع، الحجم، اللون. ماذا تريد أن تقول؟
٭ هذا هو تركيب الكون، ومن لديه اضافة فليقلها. انظري الى النبتة التي أمامك فهل من ورقة كما الأخرى؟ هل من ورقة تحمل النور الضوء نفسه؟ هل من ورقة لها الوضع والحجم نفسه؟ لكن جميعها لها النظام نفسه، الوحدة، المتكرر باختلاف الوقت، العدد، الوضع، الكبر والصغر واللون. هذا هو حال كافة المخلوقات وفي الطليعة الإنسان. للجميع ذات الهيكل العظمي وذات العضلات، لكن ما من إنسان كما الآخر. ماذا كان يتكلم الانسان الإنكليزية أم الفرنسية أم العربية؟ كانت اللغة إشارة وأصوات، كانت لغة الشكل واللون، وكان الشجر موجوداً بشكله وبلونه، ولا يزال مستمراً بشكله ولونه.
٭ كان لك اهتمام بحركة الحصان من متحفز، جامح، هائج، ومعتز بذاته. هل من اوجه شبه بين الحصان والمرأة؟
٭ للحصان رمزيات كثيرة. هو حيوان نبيل جداً، معتز بذاته، مخلص، ودود وأمين. لو كنت حصاناً لأجبتك بأفضل مما قلت، لكني حسين ولست حصاناً. حبي للخيل كبير، ومنذ صغري كنت أركب الخيل. كان لوالدي حصاناً في قريتنا. أحب هذا الحيوان كثيراً. وتأثري كبير بالحيوانات. قدمت منها الكثير في معرضي القطط، الثور والحصان، وهي حيوانات رافقت الإنسان على مدى حياته. على مدى التاريخ الحصان موجود مع الانسان في سفره، رحلاته العلمية وفي نزهاته. وكذلك الثور ساعد الإنسان ولا يزال يساعده في حياته، ولديه هذه القوة وهذا الصبر. أما القطط فأحبها رغم شرها. القط ناكر الجميل.
٭ أكثر العاريات لديها خفر وقليلها ينظر العين بالعين. ماذا تريد من حضور جسد المرأة في لوحاتك؟
٭ لن أتفلسف بقول أشياء ليست في احساس غيري. أحب المرأة كحضور، كجسد، كصوت، كرفقة وصداقة. كل هذا لا يمكن تحديده بخط أو خطين، ولا بتعبير واحد من وجه أو جسد المرأة. أنا أحب هذا المخلوق.
٭ في مرحلة يكثر فيها التشدد الديني وتقيد الحريات ومنها الفن فهل تخشى على تلك العاريات؟
٭ من لا يعرف رسم الجسم العاري سواء كان امرأة أم رجلاً، فالمعرفة غير محدودة برسم شكل واحد. هناك مهنة نتقنها أو لا نتقنها. عندما نتقن مهنة الرسم نرسم أي شيء، وليس لنا القول برسمنا لهذا الموضوع دون ذاك، وبهذه الألوان دون غيرها. وعندها لن تكون لنا علاقة بالمهن من أولها حتى آخرها. هو المنطق نفسه في رسم القطة، الثور، الرجل، المرأة. هي مقاييس. ربنا خلق الأشياء بقدر، أي بحسابات دقيقة لا يقدر عليها أي مخلوق في الكون. أخاف من جهل الناس. أخاف على الناس لأن جهلهم يقتلهم. هم يريدون رؤية الرسم العاري، يريدون المرأة العارية، وليس تلك التي تختفي جميعها، والتي يخاف الرجل أن يظهر منها شيء وكأنها وجبة طعام سيأكلها الناس من أمامه. الناس كثر، والنساء كثر والرجال كذلك. خلق الله الكون وتممه. ليس لهؤلاء علاقة بأي دين ولا بالإسلام ولا بالمسيحية. هؤلاء ناس يجهلون من هم. هم لا يعرفون أنهم من فئة البشر. هم «معترين» ومساكين يستأهلون إزاحتهم من المجتمع برمته كي ترتاح الناس منهم. ماذا يريد هذا الشخص من ملابسي، ملابس والدتي أو شقيقتي؟ فهل أنت وكيل الله على الأرض لمحاسبة هذه المرأة أو تلك؟ وتقوم بالسر «باللي ما بينعمل». يكفي كذباً.
٭ أن يقف المشاهد أمام عمل لوقت طويل وكأنه مسحور به وأن يمر بهنيهات أمام عمل آخر. كمبدع للوحة ماذا تقرأ في ذلك؟
٭ ليس لنا مرور الكرام أمام أمر له حضور يمسكنا. هذا أمر شخصي جداً. إذا كان العمل تصويرياً بمعنى هذه تفاحة، وتلك بطيخة والأخرى إجاصة. قلة في بلداننا تعرف بالفن، ومعرفة الأكثرية تقف على حدود أنهم «حزرو شو هيدا». هذه إجاصة. جيد، فهم الفن. في هذا الشرق ممنوع أن نفهم. حكامنا الكرام جميعهم يقفون حاجزا من الإسمنت أو من الفولاذ بسماكة 100 كيلو متر أمام المعرفة التي يمكن أن تقدم إلى شعوبهم. سألت شاباً سورياً بسيطاً يعمل بالكهرباء والسمكرية ماذا تصنعون في سوريا؟ ضحك وقال: استاذ نصنع الإبر، إنما نرسلهم إلى الخارج كي «يقدحوهن». كان يخلط المزح بالجد مستهزءاً. ما هي حصة الأبحاث من موازنة أية دولة عربية؟ جميعنا يمرض ويشتري الدواء من الخارج. أما من عقول في هذه البلاد لإختراع دواء؟ حتى اليوم مبادئ الطب التي توصل إليها ابن سينا لا تزال مادة دراسة في كليات الطب في الغرب.
٭ إنجاز العمل الفني سواء كان معدناً، جفصيناً، خشباً أو لوحة هل يشعرك بمتعة النهاية أم حزن الفراق؟
٭ عندما انجز موضوعاً وأكون بحالة رضى عنه أتفرج عليه لأيام. أغيب عنه وأعود لأتفرج عليه من جديد. ومن ثم تنتهي العلاقة بهذا العمل بحد ذاته، وتكون العلاقة مستمرة مع العمل التالي. لا تنتهي العلاقة مع عمل أنجزه وأصل به الى النهاية وأفرح. هو طريق علينا أن نصل به حتى النهاية.
٭ كيف هي علاقتك مع ولادة العمل الفني وهل يبدأ كما البشر بنطفة؟ هل تكون له ملامح أم تتكون ملامحه بالتدريج؟
٭ لا أمسك الفرشاة أو الفحمة للبدء بعمل فني إلا بعد أن يكون ناضجاً في فكري بشكل تام. أرى الموضوع في فكري بشكل نهائي من أشكال وألوان ومساحة. في البدء أقرر المساحة، وعندها يتقرر الحجم مربع، مستطيل، عمودي، أفقي. حتى اصغر التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع تكون جاهزة في فكري. أرى اللوحة قبل أن تنتهي. لا شك بأن صدفاً تنشأ خلال العمل وهي جميلة جداً. أمسك الصدفة وأصنع منها قانوناً يسري على لوحات وأعمال أخرى، كأن أضع لوناً قرب آخر ولم يسبق لي أن فعلت هذا، فأكون مع نتيجة تفرحني. وعندها يصبح هذا القانون الذي جمع هذين اللونين جزءاً من تكوين العمل.
٭ بشكل عام ألوانك تضفي البهجة لدى الناظر إلى اعمالك هل تحب اللون الفرح؟
٭ يمكن للألوان جميعها أن تكون فرحة شرط أن نعرف على أية مساحة نضعها، وحجم تلك المساحة، وما يحيط بها من ألوان. الأسود لون فرح ممتاز ورائع، انما علينا معرفة أين نضعه. أن يكون عندنا جوهرة ألماس كبيرة فلا قيمة لها إن رميناها في أي مكان. علينا أن نعرف وضع الأشياء في المكان الذي يمنحها قيمتها الصحيحة.
٭ هل من لون أثير لديك تختاره يدك؟
٭ في الواقع ليس من لون له الأفضلية على سواه. عندما أرى لوناً في فكري فإني أعرف تركيبه، كمثل وضع الأصفر والأسود والأبيض لأني أريد اللون الرمادي. أمزج تلك الألوان إنما النسب تختلف ومعها تختلف النتيجة. أي رمادي حصلنا عليه؟ مائلاً نحو الأخضر أو الأسود أو الأصفر؟ فالرمادي لا يعني مزج الأسود بالأبيض. يمكن للأزرق أن يكون رمادياً قياساً بما هو قربه من لون. هي درجة حضور اللون قرب غيره من الألوان وهو ما يطلق عليه بالفرنسية «Valeur». يمكن أن يكون لون أزرق وآخر أحمر ولهما ذات قيمة الحضور. ويصح أن يتجاور الأصفر مع البنفسجي. وباغماضة للعينين ومن ثم فتحهما بالتدريج سيحضر لون قبل الاخر وهو سيكون صاحب الحضور الأقوى. وإن قمنا بخطوة معاكسة أي العينين مفتوحتين ويتم اغماضهما بالتدريج فإن لوناً سيغيب قبل الآخر لأن حضوره أخف.
٭ هل تتسلى بالريشة والألوان أم تحترفهما؟
٭ نعم أتسلّى.
٭ ألم تشعر يوماً بأنك مهموم بموضوع معين؟
٭ ولا مرّة. من يلعبون «الفوتبول» ويركضون خلف الطابة ماذا يفعلون؟ ما هو الإنجاز الذي يقومون به؟ هم يلعبون. كنت صغيراً وألعب كما بقية الأولاد. كبرت ولا زلت ألعب، لكن المواد بين يدي تغيرت. فكل «من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام». 
٭ هل بدلت مراحل الحياة في موضوعاتك؟
٭ بعض الأحيان. فما يحدث في سوريا مؤلم جداً. أحمل هوية عليها الأرزة، وأملك جواز سفر أوروبيا، يمكنني الرحيل ونسيان ما هو حاصل، لكني غير قادر. أزمتنا موجودة منذ رحل عنا الفرنسيون والإنكليز وزرعوا المشاكل بين الناس من خلال الزعامات المحلية التي نصّبوها. وكّلوهم بالحكم وأمدوهم بالدعم بشرط «يسمعوا الكلمة».
٭ في مجسمات المعادن التي تضمنها المعرض كان لافتاً «أنسنتها». هل ترتاح بالتعامل مع المعدن كما الألوان؟
٭ لا شك بالفرق بالتعاطي مع المواد. هذه مادة صلبة واللون مادة لينة. إن لم يعجبني لون أمسحه وأبدله مرة واثنين ومئة. يمكنني التغيير في المعدن لكنه مكلف جداً ذهنياً وجسدياً. تعلمت مع الوقت أن تغيراً في الشكل مع هذه المساحة من الحديد مكلف. قبل فكها أضع نموذجاً من الكرتون، كي لا أخسر مرة أخرى الشكل الذي أريده. وعندما أتفق مع الشكل «بيمشي الحال».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق