بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 مايو 2014

الفكر الانقلابي وإشكالية الدولة الوطنية - طارق أبو العينين

إن استدعاء الآلة العسكرية في ليبيا ينم عن وجود نموذج محدد سلفاً تجري عملية إعادة إنتاجه على الأرض. فالجنرال الليبي حفتر يسير على خطى المشير السيسي خصوصاً بعد طلبه تفويضاً من الشعب الليبي لمواجهة الجماعات الإرهابية. وفي هذا السياق يمكن القول إن نموذج الدولة الوطنية الذي ساد عالمنا العربي إبان الحقبة الانقلابية في الخمسينات والستينات هو ما يجري استدعاؤه الآن. فتحركات اللواء حفتر دعت بعض الأصوات داخل مصر إلى القول بأننا بصدد معركة لبناء الدولة الوطنية الليبية التي تحاول جماعة الإخوان تفصيلها على مقاسها كما فعلت في مصر.
فالإشكالية الأساسية في إعادة إنتاج نموذج الدولة الوطنية كبديل لمسار ديموقراطي غامض ومتعثر في مصر وليبيا تكمن في طابع استبدادي لهذا النموذج. فعلى رغم أن مفهوم الدولة الوطنية تجذَّر في العُرف السياسي والفلسفي الغربي منذ مطلع القرن الـ18 بالتوازي مع نشأة الديموقراطية الحديثة، إلا أن التأويل العربي للمفهوم أخذ منحى انقلابياً مضاداً للديموقراطية كرسته النظم الديكتاتورية العتيدة في المنطقة تحت لواء البعثية في سورية والعراق وتحت لواء القومية في مصر وليبيا.
فعندما طرح الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو تساؤله الشهير: ما الذي يجعل من شعب ما شعباً؟ أجابت الفلسفة السياسية لعصر الأنوار عن هذا السؤال عبر تعاطيها مع الدولة الوطنية كإشكالية ذات طابع قانوني ودستوري ترتبط بالأساس بمبدأ الحق الطبيعي للجماهير في الحرية، وفي حكم نفسها بنفسها، إلا أن الطابع الأيديولوجي للثورة الفرنسية دفع جناح اليعاقبة بقيادة روبسبير باتجاه تصدير الثورة الديموقراطية وجعلها فكرة أممية انطلاقاً من تعاطيهم مع مفهوم الوطن بوصفه معادلاً موضوعياً لمفهوم الإنسانية. ولكن مع تصاعد هذا الخطاب الأيديولوجي الذي ترتب عليه اندلاع الحروب النابوليونية في مرحلة لاحقة، برز مفهوم مضاد للدولة الوطنية ارتكز على الهوية ووحدة اللغة والثقافة، دشنته الأمة الألمانية تحت وطأة الاحتلال الفرنسي في مطلع القرن الـ19 عبر أحد أهم فلاسفة ألمانيا وقتها وهو يوهان فيخته الذي أصدر حوليته الشهيرة «خطابات إلى الأمة الألمانية». فبحسب تلك الحولية فإن وحدة الدولة ليست قانونية وسياسية بقدر ما هي هوياتية تشكلها وحدة اللغة التي تعتبر من هذا المنطلق ماهية ما قبل سياسية يعبر عنها في شكل ظاهري الكيان القانوني للدولة وحدودها الجغرافية وتاريخها المشترك. إلا أن هذا التناقض بين نموذج الحق الطبيعي والقانوني وبين النموذج الهوياتي، كانت نتيجته هي ابتلاع النموذج الهوياتي للنموذج الطبيعي والقانوني في شكل استوجب على الأمة الأوروبية اتباع سياسات كإعادة التوطين لحل مشكلة الأقليات، خصوصاً إبان اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية.هناك استنتاج مهم من هذا التطور التاريخي والمعرفي لمفهوم الدولة الوطنية قد يفيد في فهم الإشكالية الكبرى التي عانى منها ولا يزال يعانيها هذا المفهوم بطبعته العربية الانقلابية التي تجري إعادة إنتاجها في تلك الآونة. وهذا الاستنتاج هو أن نموذج الدولة الوطنية الهوياتي على رغم تناقضه التاريخي مع الحقوق الطبيعية والقانونية لمواطنيها عموماً ولأقلياتها بخاصة، إلا أنه لا يمكن أن يتأسس على شرعنة هدر هذه الحقوق انطلاقاً من خطاب أيديولوجي كالخطاب القومي الذي حملته عملية الدفاع عن الهوية العربية في مواجهة الإمبريالية الغربية حملاً رمزياً إضافياً مكَّنه من فعل ذلك. فالهوية الوطنية العربية تعد، انطلاقاً من تلك الصيغة الهوياتية ذاتها، حفرية أنثروبولوجية تراكمت عليها ثقافة الأمة العربية عبر القرون بفعل تفاعلات تاريخية معقدة، ومن ثم لا يمكن اختزالها في أيديولوجيا بعينها. ولذلك فإن الخطابات الأيديولوجية العربية الحديثة والمعاصرة لا تملك إزاء تلك الصيغة إلا خياراً واحداً هو البناء عليها واستكمالها عبر تأسيس نموذج الحق الطبيعي والحرية القائم على أرضية الشرعية الدستورية والقانونية ومبادئها المعروفة كالحرية والفردية والمساواة وسيادة القانون. فمن دون ذلك ستدفع تلك النظم العربية الفاتورة الفادحة لإعادة إدماج تلك الأقليات المغضوب عليها سياسياً.
فلو تحدثنا مثلاً عن تجربة الدولة الوطنية المصرية في العهد الناصري، وفي إطار المواجهة نفسها مع جماعة «الإخوان»، سنجد أن الناصرية على رغم نجاحها في إقصاء «الإخوان» عن المشهد خلال عقدي الخمسينات والستينات، إلا أن عملية إعادة إدماجهم في الحياة السياسية في عهد السادات أدت إلى حصولهم على امتيازات سياسية مكَّنتهم من القضاء على القاعدة الشعبية للتيارات اليسارية والناصرية. ولم تفلح الحقبة الساداتية على رغم ذلك في تهذيب الخطاب الراديكالي المتطرف للأجنحة الإسلامية العنيفة التي واصلت اجترار شعورها القديم بالمظلومية منتجة موجة من الإرهاب ما زلنا نعاني تداعياتها حتى الآن، ناهيك عن المظلومية الجديدة التي نشأت لدى شرائح وفئات اجتماعية واسعة بفعل الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية الظالمة التي تم تمريرها عبر أدوات الدولة الوطنية القديمة، كالجيش والبوليس والإعلام الموجَّه خلال عهدي السادات ومبارك.
ومن ثم، فإن ثورات الربيع التي اندلعت في مواجهة تلك النظم نتيجة هذا التناقض الجدلي الذي خلقه توظيفها الأدوات القمعية للدولة الوطنية الاشتراكية في تدشين دولة تسلطية متحررة من الأعباء الاجتماعية التي فرضتها تلك الاشتراكية، لا يمكن أن يكون مآلها الأخير هو الذوبان مرة أخرى في تلك الدولة التسلطية وقبول ما ستفرزه ممارساتها من مظلومية سياسية واجتماعية وانتكاسة عن مسار الديموقراطية لا يمكن تبريرهما بالحرب على الإرهاب على رغم نُبل هذا الهدف بمعناه المجرد وبعيداً من ديماغوجية الفكر الانقلابي.
* كاتب مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق