بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 13 مايو 2014

السلطان والعامّة في الأندلس: من رمزية (باب العدل) إلى سردية (خبط الأسياف)

ينقل (ابن سماك العامليّ) في – الزهرات المنثورة – عن المؤرخ الأندلسي – ابنحيان – أن رجلاً معتوهاً- كما يصفه السرد- ، تصدى للخليفة عبد الرحمن الناصر (300- 350هـ) يوماً، وهو خارج من القصر في موكب له، وحاول الاقتراب منه ليكلمه في شأن ما، وأراد أن يُمسك بعنان فرس الناصر ليوقفه، فابتدره الحرسُ الصقالبة ‘فخبطوه
بأسيافهم، ووخزوه بأسنتهم، فقتلوه’.تُبرز هذه الواقعة رمزياً، المدى الذي وصلت إليه القطيعة بين الخليفة الأندلسي وبين العامة، ومدى قسوة الجهاز الأمني- الإداريّ الذي بات يفصل بين الناصر وبين رعيته، إلى درجة باتت معها محاولة الوصول إلى السلطان لتقديم شكوى، عملاً خطيراً قد يفقد المرء بسببه حياته.
إن تحولاً كبيراً طرأ على العلاقة بين السلطة والجمهور خلال حكم الناصر، الذي يعتبر آخر الحكام الأمويين الأقوياء في الأندلس. وللتدليل على جذرية هذا التحول يكفي أن نذكر أن سلفه المباشر وجده الأمير عبد الله بن محمد (275- 300هـ) كان حريصاً على أن ‘يصل إليه الكبير والصغير’، ليتمكّن من الإصغاء المتفهّم لشكاوى الرعية ومطالبهم، وتتبّع أخبارهم بنفسه ‘فلا يخفى عليه شيء من أمور الناس′. وتذكر المصادر أن الأمير عبد الله فتح في قصره باباً اسمه باب العدل، يقعد فيه للعامة من أهل قرطبة ‘في أيام معلومة فتُرفع إليه فيه الظلامات وتصل إليه الكتب فلا يتعذّر على ضعيف إيصال بطاقة بيده ولا إنهاء مظلمة على لسانه’ على حد تعبير ابن عذارى.
كان الأمير عبد الله بن محمد قد واجه وضعاً صعباً جعل البلاد تتأجج بالنقمة على حد تعبير مونتغمري وات -. وقد رأى هذا الأمويّ المحنك أن مواجهة ذلك الوضع يتطلب تواصلاً مباشراً مع العامة، وبخاصة داخل قرطبة: مجاله الوحيد المتبقي تحت السيطرة. مما جعله يدفع بتقاليد التواصل المستمر بين السلطان والناس في التاريخ الإسلامي، إلى ذروة ناصعة جليلة، وقدّم مثالاً ممتازاً على التقاء الشرعية بالمشروعية في فضاءات التواصل المستمر مع الجمهور. 
وجاء الخليفة الناصر ليقطع مع سياسة جدّه عبد الله هذه بشكل كامل. بل ليقطع ـ وإلى الأبد – مع تقاليد راسخة للتواصل بين الحكم والجمهور في الأفق الأندلسي استمرت منذ أوان المؤسس عبد الرحمن الداخل. وينبغي أن نلاحظ أن هذه القطيعة كانت مُدرَكة ومقصودة من قبل الناصر، حيث تذكر المصادر أن الأخير وجّه نقداً مباشراً وصارماً إلى سياسة جده وسلفه عبد الله، فسأل وزراءه يوماً: 
‘أعلمتم أن الأمير عبد الله جدي بنزوله للعامة في الحُكْم للمرأة في غزلها، والحمّال في ثمن ما يحمله، والدلاّل في ثمن ما ينادي عليه، أضاع كبار الأمور ومهماتها، والنظرَ في حروبه، ومدارأة المتوثّبين عليه، حتى اضطرمت جزيرة الأندلس، وكادت الدولة ألاّ يبقى لها رسم؟’. 
إن أسئلة الناصر هنا، والتي تحمل دلالة القطع المقصود والكامل مع سياسة سلفه، تأتي مباشرة بعد واقعة أخرى يذكرها المؤرخ ابن سعيد في المُغرب وهي، كما الواقعة التي ذكرتُها في مبتدأ المقالة، تحيل إلى تخلي الناصر عن سياسة التواصل بينه وبين الجمهور.
يتحدث ابن سعيد في تمثيل سردي بالغ الأهمية بالنسبة للسياق الذي نحاول دراسته، عن رجل وَقاح أصر فيما يبدو على لقاء الناصر بالشكوى والصياح ليعرض عليه مشكلته. لقد بدت المسألة للناصر وضيعةً بتعبير السياق السردي -، فأمر بضرب الرجل، ثم ‘نودي عليه بذلك مجرّساً’. إن علامات معينة تظهر من خلال تشخيص السرد للحدث، تؤكد القطيعة بين الناصر والعامة. فالرجل في معيار السرد وَقاح أي ظاهر الوقاحة صلْبُ الوجه، يشار إليه في السياق بصيغة التنكير، وفعلته بالتالي تنتمي إلى حقل السلوكيات المرذولة الوضيعة، المستحقة للعقاب: الضرب والتشهير. ويُراد من التشهير هنا لجْم العامة عن الإقدام على تكرار صنيع الرجل الوقاح: الدخول على السلطان. 
ما الذي جعل الناصر يقطع مع سياسة جده عبد الله إذاً..؟! كيف انتقلت العلاقة بين السلطان والناس في الأندلس من رمزية باب العدل إلى وقائع قتل وتنكيل وتشهير بحق المراجعين الراغبين بلقاء السلطان وتقديم شكوى له؟! 
إن فهم هذا التحول وأبعاده داخل تاريخ السلطة السياسية والإدارية في المجال الأندلسيّ، يستدعي تتبع الأحداث السياسية والعسكرية، والتمثلات عن السلطة واستعراضاتها واستخداماتها، منذ تولى الناصر الحكم بعد وفاة جده عبد الله بن محمد عام 300 هـ .
بدأ الناصر، بعد تولّيه الحكْم بأشهر قليلة، قيادة عمليات عسكرية واسعة ضد الثائرين على السلطة المركزية في قرطبة. وإذا استثنينا هزيمته القاسية سنة 327هـ في موقعة الخندق أمام ملك ليون – راميرو الثاني -، فإن الناصر بقي طوال ربع قرن يحقق الانتصار تلو الآخر، على أعداء وثائرين، من كل نوع، وفي كل مكان، حتى تمكّن ‘من أن يقهر العرب والبربر والإسبان، واضطروا جميعاً للركوع أمام القوة الملوكية التي لم يعد لسلطانها حدّ ‘ كما يقول – دوزي-. ومما لاشك فيه أن نشوة النصر المؤزّر التي شعر بها الناصر مراراً وتكراراً، قد رسّخت لديه إحساساً طاغياً بالقوة والتميّز والسيطرة: ‘استولى عليه العُجْب’ على حد تعبير مؤلف أخبار مجموعة -.
ومع عدم إغفال الدوافع السياسية، والمعطيات التي توافرت للناصر بقراءة أحوال القوى الفاعلة في المجال الحضاري- السياسي الإسلامي آنذاك، وعلاقته مع هذه القوى؛ فإننا نفهم ما قام به سنة 316هـ، من إعلان الخلافة واتخاذه لقب أمير المؤمنين، في هذا السياق: سياق الإحساس المتنامي لديه بالقوة والنجاح والعلوّ، نتيجة الانتصارات العسكرية التي حققها. ومن المفيد التذكير هنا بأن ذلك الإعلان قد جاء عقب انتصاره الحاسم سنة 315هـ في حصن ببشترBobastro قاعدة ثورة بني حفصون، أخطر ثورات المولدين على الإطلاق.
لقد جاء إعلان الخلافة عام 316هـ، ثم البدء ببناء مدينة الزهراء عام 325هـ، تلبية للحاجة إلى أطر شرعيةٍ وفضاءات جديدة تجسّد هيبة السلطة وقوتها، وتسمح بمخرجة الانتصارات العسكرية التي تم تحقيقها،على شكل ألقاب فخيمة، ومجالس باهرة، ورسوم معقدة.
إن الوصف الحي الذي نقرأه في النصوص السردية والشعرية، لمجالس الناصر خلال استقبال زائريه؛ يعكس الحقيقة التاريخية لهذا التوجه. فالسرد التاريخي يُكْثر الالتفات إلى مجالس الناصر التي قعد فيها لاستقبال الوفود والسفارات من داخل البلاد ومن أوروبا وأفريقيا، سنة إثر أخرى. لقد تحول حدثُ ‘الوفود على بلاط الناصر’ إلى مكوّن سردي تنتظم في سياقه إشارات وصيغ لغوية متكررة تعكس رغبة الناصر في التعبير عن سلطته المطلقة من خلال مشهدية متكاملة من العلامات والرموز والطقوس المتعلقة باستقبال الوفود، ودخولهم إلى مجلسه. ولو مثّلنا على ذلك بنصوص ابن عذارِى في – البيان المُغرب -، لاسترعى انتباهنا التركيز الواضح، في عرض presentation هذا المؤرخ، على عدد من الأفعال التي يرى السردُ أنها أساسية في الخبر والحدث. وهي ترد في السياق كإشارة ذات وزن دلالي لا يمكن تجاهله. فقعود الناصر على السرير إيذاناً بافتتاح العرض، لازمةٌ يستحضرها السياق الإخباري كل مرة، متبوعةً بتمييز الفعل وصفته، لتعيين درجة السطوة والقدرة التي تمتع بها الناصر (قعد أفخم قعود قعد قعوداً بهياً- …الخ). أيضاً تتكرر الإشارة إلى لحظة الوصول إلى مجلس السلطان، بوصفها لحظة مركزية في السياق الإخباري. وفي صياغة لغوية لافتة تتم إحالة فعل الإيصال السماح به إلى المقصد الأسمى من حركة الدخول ومن المشهدية الاحتفالية كلها: السلطان. فتتكرر هذه الصيغة: أوصل السلطان إلى نفسه فلاناً!. وهي صيغة توفر دلالة متعددة المستويات، منها إجلال فاعل الإيصال السلطان -، وحصر صلاحية هذا الفعل به، وبالتالي تثمين هبة الوصول إلى الحضرة، مع تضئيل واضح لحوْل الواصل وأحواله.
ويحرص السرد خلال ذلك على رصد حالة الانبهار والدهشة والإعجاب لدى الداخلين إلى مجلس الناصر، حتى أن بعضهم هم بالسجود ‘لهول ما عاينوه من جلالة الملْك’. أما الفقيه محمد بن عبد البر الكسنياني، الذي ‘كان يَدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره ‘ فإنه’ حضر المجلس السلطاني، فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظة، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض’.
إن التمثيلات السردية في هذه النصوص تعكس حقيقة تاريخية برزت بشكل خاص بعد إعلان الناصر الخلافة وبناء ـ الزهراء -، وتتمثل في سعي الناصر باستمرار إلى إشاعة جو من الفخامة والأبهة والقوة أثناء جلوسه على سرير الملْك، مستقبلاً الوفود والشخصيات مراراً وتكراراً، بدون ملل أو كلل، وذلك لإشباع الظمأ الكبير لديه إلى التعالي والإحساس بالتفوق والسلطان المطلق. 
ويمدنا الشعر المعاصر بما يؤكد ذلك. ففي المقطّعات التي كتبها حاجبه ووزيره أبو الأصبغ، نلاحظ أن بؤرة الرصد الشعري تحتفي بصورة المهابة والقوة التي يبثها الناصر في جلوسه أمام زائريه. ومن الواضح هنا أن تعبيرات الاحتجاب والبروز قد تخللت التصوير الشعري بقوة، وطبعت حركة المشهد المرصود:
إذا ما فُرّجت خللُ الستور ولاح وقد تمكن في السريرِ
ترى الأملاك ماثلة لديـه بأعناق إلى الغبراء صـورِ
كأنهم لهيبته قـد أوفـوا من الموت الزعاف على شفيرِ
ويقول أبو الأصبغ في مقطوعة أخرى :
معظّمٌ تحسر الألحاظ من رهب عنه وتلحظه الآمال من رغـبِ
إذا بدا تضحك الدنيــا لطلعته وتتقي الجنّ منه سورةَ الغضبِ
* * *
لقد كفّ الناصر بعد هزيمته المروعة في موقعة الخندق سنة 327هـ، عن قيادة الحملات العسكرية بنفسه، كما كان يفعل من قبل. ومن أجل أن يؤمن دعامات جديدة لإحساسه الأبدي بالزهو والقوة والتباهي، ويهيئ مسارح جديدة لعروض السلطة الباذخة، وهو ما كانت وقائع انتصاراته الميدانية الحاسمة توفره له باستمرار؛ فقد لجأ إلى الإكثار من إقامة مجالس استقبال الوفود القادمين للقائه من كل حدب وصوب، مع تهيئة طقوس استعراضية حافلة بالرسائل والدلالات التي صارت الآن بمثابة فضاء بديل لاستعراضات الزهو والانتصار في ساحات القتال. وعوضاً عن أن يخرج الناصر بنفسه إلى فضاءات ذات وجود سابق ومستقل عن ترتيبات السلطة، يتحرك فيها حركةً طبيعية عفوية منفتحة على حركات الناس، من الجند والعامة، المشاركين بصنع السياق، لا المُساقين ليشهدوا العرض فحسب، وحيث تناغُمُ الحركات كلها يسفر عن تحديد هدف عام والسعْيِ لتحقيقه؛ عوضاً عن كل ذلك، لجأ الناصر إلى تثبيت وتركيز هيبته في مكان واحد، رتّبته السلطة الإدارية – الأمنية التي ازدادت صرامة ودقة وتحفظاً، وأشرفت على رسم الحركات المفتعلة والمحسوبة للداخلين إليه، الراغبين بلقاء رمز الشرعية العالية القارة والثابتة على سرير العظمة.
ويبدو للوهلة الأولى أن هَوَسَ الناصر باستعراضات القوة هذه، واستدعاء طقوس التبجيل ومشاهد الأبهة، يجب أن يخلق الحاجة إلى التواصل مع الناس والاهتمام بآليات الظهور والإذن أكثر من أشكال الاحتجاب والمنع. وربما كان هذا صحيحاً في مستوى ما. لكن استحقاقات هذا الهوس نفسه، من رسوم وترتيبات تفرضها الحاجة للظهور بالشكل المطلوب، كانت تتعقد بالتدريج، وتغدو أكثر تصنّعاً وتطلباً وترفعاً، مما فرض مع الوقت قيوداً عديدة على حضور العرض، بل وعلى إزاحة الستار عن مشهدية السلطة في أبهتها المستقرة. لقد انفصلت الآليات وقواعد التطبيق شيئاً فشيئاً عن غاياتها الرئيسة والأساسية، وهي ترتيب الفضاء بما يسمح بتوصيل علامات القوة والتمكين والفخامة إلى أكبر عدد ممكن من الحضور، واتخذت لنفسها سلطةً مستقلة تعمل، وكأنها نسيت مبررات وجودها الأساسية، على الإقصاء والحَجْب، أكثر مما تعمل على توصيل الحشد إلى المسرح. وقد ساعد على ذلك أن قواعد الإدارة والرسوم العباسية، ذات الأصول الساسانية، كانت من بين مصادر الإلهام الرئيسة للبلاط الأندلسي في عهد الناصر. 
إن اصطفاءً تدريجياً لنوعية الحشد الذي يُسمح له بالاقتراب والمعاينة، كان لا بد أن يحدث. وكان العامةُ بطبيعة الحال هم المرشّحون المفضّلون للإقصاء والحَجْب، مما أفضى إلى إقصاء العامة، وتعويق وصول الجمهور إلى السلطان الذي استبدل الآن بالجمهور والرعية، الوفودَ والسفارات. وبفرح المشاركة والتواصل، دهشةَ الفُرْجة ورعبَ المعاينة.
لقد كان دم الرجل (المعتوه) في الحكاية التي افتتحتُ بها هذه المقالة، يرسم على عتبات قصر الخليفة حقيقة مآل الدولة وتحول صاحبها من ‘حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الإذن’ إلى ‘طور الاستبداد على قومه، والانفراد دونهم بالملك، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة’ على حد تعبير ابن خلدون .
محمد حيّان السمّان سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق