بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 13 مايو 2014

السلطة والفساد في الجزائر.. تمييع المميَّع توفيق رباحي

ما أن انتهت الانتخابات الرئاسية الجزائرية حتى انفتحت أبواب الجحيم على أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، عبد العزيز سعداني. 
سعداني هو، نظريا، عرّاب هذه الانتخابات ووكيل الرئيس بوتفليقة الأول. هو أشرس المدافعين عنه، ظالما أو مظلوما. وهو أول من أعلن أنه سيترشح، وأنه سيفوز. وهو أول من أعلن دعمه المطلق له. وهو أول من كشف اتجاهات النتائج. وهو أكثر من أطرى على بوتفليقة، قبل وأثناء وبعد الانتخابات.
أيضا، وهذا الأهم، سعداني هو من أخرج إلى صفحات الجرائد حديث الصالونات عن خلافات بوتفليقة مع مدير جهاز المخابرات، اللواء محمد مدين. شنّ سعداني هجوما على مدين لم يتوقعه في أبشع كوابيسه. كال له اتهامات خطيرة بتعفين الحياة العامة والسياسية في البلاد، وختم بالقول: إذا لحق بي مكروه، فاللواء مدين هو المسؤول. 
كانت العبارة الأخيرة بمثابة حصانة لسعداني من أيّ أذى مادي أو جسدي. لكن يبدو أنها لم تكفِ لحمايته من الأذى المعنوي والسياسي، خاصة وهو صيد سهل محاط بالشبهات.
بدأ هذا النوع من الأذى يلاحق سعداني فور انتهاء الانتخابات وتتويج بوتفليقة رئيسا لولاية رابعة. ورد ذلك في تحقيقات إخبارية فرنسية تحدثت عن حسابات متخمة بملايين اليورو زُعم أن سعداني يملكها في باريس، إلى جانب عقارات فاخرة تديرها إحدى بناته.
لم يحلم خصوم بوتفليقة وسعداني، والصحافة الجزائرية المناوئة لهما، بأفضل من هذه الفرصة لبدء حملة تشويه رجل خلق لنفسه أعداء كثيرين ووفر لهم أسباب الهجوم عليه. وفوق ذلك، لا يبدو منه ما يفيد أنه بارع في فنّ حماية وصيانة صورته.
بسرعة التقطت الصحف والمطبوعات الجزائرية هذه الأخبار وشرعت في توظيفها إلى أقصى الحدود.
بسرعة أيضا كذّب سعداني هذا الكلام، لكن في مثل هذا النوع من المواقف لا ينفع التكذيب كثيرا، بل قد يضر أكثر. التكذيب ورطة والصمت ورطة أكبر. أبواب الجحيم الأخلاقي انفتحت ويصعب غلقها. وإن أُغلقت تبقى أثارها، لأن الناس يحتفظون في ذاكرتهم بالخبر لا بتكذيبه اللاحق. هل من الخطأ القول إن سعداني بدأ يدفع ثمن كلامه القبيح عن مدير المخابرات؟
ربما لا. فالمألوف أن المعلومات عن الفساد الحكومي والصفقات المشبوهة، حكر على إدارة المخابرات التي كانت إلى وقت قريب تجري التحقيقات وتحتفظ بها. وهي التي كانت تسربها، وفق حسابات معينة، إلى وسائل الإعلام الجزائرية التي تفتقر إلى ثقافة وكفاءة وإمكانات وشجاعة إجراء تحريات عن كبار المسؤولين الحكوميين، ثم نشرها. وهي التي تعرف كيف توظفها جزائريا، إذا ما وردت من مصادر أخرى.
في أغلب قضايا الفساد وسرقة المال العام التي أُثيرت في السنة الماضية، كان الفضل للصحافة الأجنبية، فرنسية وإيطالية وكندية.
ما تفعله الصحافة الجزائرية عادة هو توظيف ما يُنشر وراء البحار، مع إضافة بعض بهارات محلية منطلقها استخباراتي أو سياسي.
ليس سراً أن الفساد مستشرٍ بشكل مخيف في كل مفاصل الدولة الجزائرية. بل وتسرب إلى المجتمع الذي أصبح يرى اللصوص وسرّاق المال العام أبطالا ورموز نجاح.
ومن شدة اتساع حجم انتشاره وتآلف الناس مع كل اشكاله، أصبح الفساد الحكومي والإداري جزءا من حياة الناس، لا يؤلمهم، لا يخيفهم ولا يقلقهم. ولا يثيرهم إلا كقصة صحافية مثيرة مرت من هنا ذات يوم مثلما مرت قصص رجل الأعمال عبد المؤمن خليفة في 2003، وعاشور عبد الرحمن وشكيب خليل وغيرهم.
أصبح مألوفا أن ملفات الفساد سيف تحوزه أطراف في السلطة تشهره عندما تحتاج إلى تحطيم خصم أو تلطيخ سمعته.
وفي غياب سلطة موثوق بها وقضاء مستقل وصحافة حرة تماما وكفؤة، يصبح الكلام عن الفساد أقرب إلى اللغو وملء الفراغ السياسي والإعلامي. 
وإذا أضيف لهذا كله أن في القضايا المعروفة، فلتت الحيتان الكبرى بسلام ودفع البسطاء الثمن، توفرت كل أسباب اهتزاز ثقة الجزائريين في ما يُكشف لهم من ملفات فساد، وفي كاشفيها. 
وتتسع هوة الثقة المهزوزة عندما يقرأ الجزائريون أن الرئيس بوتفليقة جرّد جهاز المخابرات من صلاحية التحقيق في قضايا المال العام، وأحالها لجهاز الدرك الذي يرأسه قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، حليفه الرئيسي ودرعه الأمني الأول.
أنْ تمنح التحقيق في ملفات خطيرة تتعلق بممتلكات الشعب لحليفك الأول قد يُفسَّر وكأن لديك ما تخفيه. 
طالما بقيت العدالة الجزائرية غير مستقلة وغير جاهزة لفتح التحقيقات الكبرى من تلقاء نفسها، والصحافة قليلة الكفاءة والشجاعة، وقضايا الفساد في أيدي جهات نافذة في الحكم تقتل بها من تشاء، فلا أمل ولا ثقة. 
إلى حدِّ اليوم تبدو طريقة تعامل المؤسسات، حكومية وغير حكومية، مع قضايا الفساد تقود إلى تمييع المميَّع.
الأرجح أن العاصفة ستمر على سعداني مثلما مرت على من سبقوه. ليس هو أول ولا آخر من طالته الشبهات.. الفساد عام والمصيبة إذا عمّت خفَّت!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق