بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 مايو 2014

رئاسات سجن حلب المركزي بمصر وسوريا د. عبدالوهاب الأفندي

(1) هناك رمزية عميقة في احتفال النظام السوري باستعادته سجن حلب المركزي بعد قرابة عامين من حصار المعارضة له. فعندما يبذل النظام كل هذا الجهد، ويهدر كل هذه الأرواح دفاعاً عن سجن معظم نزلائه من شرفاء السوريين، فهو يذكرنا بأن نموذجه لسوريا هو أن تتحول كلها إلى «سجن مركزي» كبير. النظام احتفل من قبل بإفراغ حمص من أهلها كما يحتفل الصهاينة بتهجير الفلسطينيين واستلاب أرضهم، فطوبى له هذا النصر على السوريين!
(2) في هذه الأجواء التي شهدت تدمير سوريا كوطن وشعب، تتحدث الآلة الإعلامية لنظام هولاكو السوري عن «انتخابات» رئاسية بدأت بعض إجراءاتها فعلاً. ولا يمكن تصور إهانة للشعب السوري أكثر وقاحة من هذه. فهولاكو يعلم قبل غيره أن الشعب السوري قد صوت بالدم وبالهجرة، وبدخول سجن حلب وغيره، ليس فقط لإقصائه عن الرئاسة. فلماذا إذن الإصرار على هذا الاستفزاز لمشاعر الشعب؟
(3) الأصل في الانتخابات تأكيد سلطان الشعب على نفسه وعلى وطنه. ولا يتأتى هذا إلا بأن يكون الجميع قادراً على تنفس مناخ الحرية، متمتعاً بالكرامة وحق التعبير عن الرأي. عندها يتقدم المرشحون متذللين للشعب حتى يمنح من شاء منهم ثقته لخدمته. أما حين يساق «الناخب» بالبنادق وبراميل البارود ليدلي ب «صوته» للرئيس الأوحد، فإن الحديث عن انتخابات يتجاوز الاستهتار بالعقول إلى مقام الفحش والفجور.
(4) في مصر المحروسة أيضاً انعقدت «انتخابات» لم يكن الشعب فيها حاضراً أو صاحب خيار. فأنصار الجنرال كانوا يعرفون من يريد الشعب أن ينتخب، ولهذا وضعوهم في السجون، وأسكتوا صوتهم، وأعملوا فيهم قتلاً وتشريداً، قبل أن ينبروا إلى الساحة ليتباهوا: هل من منازل؟ ولو كانوا كما زعموا يثقون بأن الشعب في صفهم، لكان أيسر الأمر عليهم منازلة خصومهم في انتخابات حرة وشفافة لإسكات كل مرجف.. وقد قلنا من قبل إن هذا أشبه بقيام فريق كرة بتكسير أرجل الفريق المنافس قبل رفع رايات الانتصار!
(5) من يحتفل باستعادة سجن، ومن يحتفل بالنصر في غياب (وتغييب) الفريق المنافس، يتجاوز حالة خداع النفس إلى مرحلة المرض النفسي العضال. وأسوأ حالاً منه تلك الفئات من أهل الرأي (من إعلاميين وأكاديميين ومحترفي تطبيل) ممن يرفعون الصوت تغزلاً في ثياب الفرعون الخفية الزاهية التي لا يراها عامة الشعب بلاهةً وعمىً. فهؤلاء حالة تستحق الدراسة بتأمل عميق من قبل أهل العلم والحكمة.
(6) ما يجمع بين الفئتين هو الإحساس بالغربة في الوطن، والكراهية والاحتقار للغالبية من عامة الشعب. أحد كبار مفكري مصر اليساريين (إي والله!) كتب في نهاية أيام مبارك كتاباً (بلسان إنكليزي مبين) اعترف فيه بأنه يشعر بالغربة في مصر اليوم، وعبر فيه عن حنينه لأيام الباشوات، حين كانت صفوة قليلة تفرض شكل المجال العام. ومثله رجل أعمال من أكبر مؤيدي دكتاتور اليوم والأمس قال بنفس المنطق إنه يشعر بأن شوارع مصر تذكره بطهران.
(7) هذه الفئة من «المستشرقين» الكارهة لنفسها ووطنها وشعبها، تطمح إلى تحقيق ما طمح إليه أسلافهم من نابليون وكرومر وهنري غورو، إلى بوش وساركوزي، أي «تمدين» أهل مصر وسوريا بقوة السلاح. ويعني هذا بداية استعبادهم وقهرهم، ثم إعمال السوط في ظهورهم حتى يتعلموا ما يأمرهم به سادتهم غير المتمدنين. وكلنا نعلم أن النتائج في المرة الأولى لم تسر نابليون ولا كرومر ولا بوش الأب أو ابنه. ونحن نبشر كرومرات عصرنا بما لا يسرهم. مشكلتهم أنه بخلاف نابليون وبوش وجنودهما، ليس لهم مكان يلجأون إليه حين يجد الجد، وسيجدون كما وجد شاه إيران، أن الأرض ضيقة جداً على سعتها.
(8) مشكلة القوم أنهم لا يتعظون إلا قليلاً. وفي حقيقة الأمر، فإن الغباء هو ما يوحد هذه الفئات، وإلا لما هزمت في معارك الرأي والحجة، واضطرت لاستخدام البنادق والدبابات والقناصة والبراميل المتفجرة. ولو كانت لديهم ذرة عقل، لاتبعوا النصيحة القرآنية بالسير في الأرض والتأمل في التاريخ القريب ليروا كيف كانت عاقبة من سبقهم على هذا الطريق. فما نراه اليوم في مصر وسوريا وتونس وإيران وتركيا وغيرها هو نتاج مباشر لجهود كرومر وعبدالناصر والسادات ومبارك والأسدين والشاه وبورقيبة وأتاتورك. فيا لخبية من يجرب المجرب!
(9) إلى وقت قريب كان المصريون يتندرون بمبارك باعتباره الكاريكاتور لأسلافه من الطغاة، وكان التونسيون بنفس القدر يرون في بن علي نسخة باهتة ومثيرة للشفقة من بورقيبة. ولكن هذا كان قبل ظهور السيسي، وهو حقاً تحفة العصر، وآية من آيات الزمان. ولكن الأدعى للتأمل هو تلك الفئات التي افتتنت به كما افتتن بنو إسرائيل بعجلهم ذي الخوار. فليس المشكلة في العجل، وإنما في من يعبده!
(10) لعله آن الأوان حتى نعتذر للمستشرقين الأصليين، ممن ظللنا نقارعهم الحجة لعقود، ونسفه قولهم في أن الشعوب العربية فاقدة للأهلية لحكم نفسها، وأنها سجينة أفق ثقافي يجعلها لا تتوق إلى الحرية ولا تفهمها أو تطيقها.
فهناك بالفعل فئات لا يستهان بها من الشعب العربي (ومنها للأسف طائفة من «المثقفين») تنطبق عليها هذه الأوصاف. يكفي أن يتابع من شاء الإعلام المصري ليستنتج أننا بالفعل أمة يحق أن تضحك من جهلها الأمم. والأنكى هي المجاهرة بهذا العار الذي ينبغي أن يستتر من ابتلي به، لا التباهي به على الفضائيات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق