بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 8 مايو 2014

هكذا أدخلت كتبي الكردية الى سوريا حليم يوسف

كان ‘الرجل الحامل’ 1991 كتابي الأول والأخير الذي حصلت له على موافقة الطباعة والنشر من قسم الرقابة في وزارة الاعلام السورية، وذلك بعد قص رأس قصة واحدة من أصل خمس عشرة قصة قصيرة تضمنها الكتاب. 

وبدأت حكايتي مع التهريب ابتداء من الرفض الذي تلقيته على الكتاب الثاني ‘نساء الطوابق العليا’ 1995، حيث اضطررت الى طباعته سرا في دمشق، على أن يكتب على الغلاف من الداخل على أنه طبع في بيروت-لبنان. ولي مع ادخال روايتي ‘سوبارتو’، بطبعتها الأولى، من بيروت الىسوريا حكاية طويلة سأتناولها في وقفة أخرى. في تلك الأعوام وتحديدا بعد العام 1992 في عهد رئيس الوزراء التركي توركوت أوزال، تم رفع الحظر عن اللغة الكردية في تركيا وبدأت المجلات والكتب الكردية بالصدور بشكل مرخص. ولأنني كنت أكتب باللغتين العربية والكردية فقد وجدتها فرصة مناسبة لطباعة كتبي الكردية في تركيا. وهكذا صدر لي الكتاب الأول ‘موتى لا ينامون’ 1996عن دار آفستا في استانبول. وبدأت البحث عن مهرب يدخل لي ما تيسر من نسخ عبر الحدود التركية السورية، وذلك بعد أن أنهكني ادخال نسخ قليلة من روايتي ‘سوبارتو’ عبر الحدود اللبنانية السورية. وتوج بحثي بالنجاح عندما أكد لي أحد الأصدقاء بأنه يعرف سائق باص يعمل بين هاتاي-أنطاكيا وحلب، على معبر باب الهوى، وقد خصص هذا السائق صندوقا خاصا خفيا في الباص لتهريب البضاعة بين طرفي الحدود وأنه يشتري منه تلك البضاعة بأسعار مخفضة عن أسعار السوق. وطلبت منه التحدث الى السائق على الفور، ففعل. استغرب السائق من أن تكون البضاعة كتبا هذه المرة، الا أنه تقبل الأمر بعد اطلاعه على تفاصيل الأمور. ومع ذلك طلب مبلغا من المال، لم يكن قليلا لطالب مثلي يدرس في كلية الحقوق في جامعة حلب.. وتم الاتفاق على ادخال سبعمائة نسخة مقابل عشرة آلاف ليرة سورية. واستلمت النسخ في حلب بعد مرورشهر على هذا الاتفاق. بدأت محنة التوزيع باليد لعدم تجرؤ أصحاب المكتبات في المناطق الكردية على بيع الكتب الكردية علنا. وقد كان الوضع في المدن الكبيرة كحلب ودمشق مختلفا قليلا، حيث كانت الكتب الكردية تعلق على واجهات بعض المكتبات دون أن تثير حفيظة قوى الأمن، وخاصة اذا كانت تلك الكتب أدبية. ومن أطرف الحوادث التي عايشتها في هذا السياق، ما حدث لي مع صاحب مكتبة الزهراء في حلب. أعطيته عشرة نسخ من كتابي ‘موتى لا ينامون’، فعلق احدى النسخ على واجهة المكتبة لعرضها للبيع، وذلك مقابل نسبة مئوية من سعر المبيع، كما هي العادة لدى كل المكتبات. وبعد أقل من اسبوع لفت نظري خلو واجهة مكتبة الزهراء من أي أثر لكتابي الجديد، فاستبشرت بيني وبين نفسي خيرا، معتقدا بأن النسخ العشر قد بيعت بسرعة قياسية. دخلت المكتبة محضرا نفسي لقبض ثمن النسخ المباعة وتزويد صاحب المكتبة بعشر نسخ أخرى، لكن المفاجأة كانت في رد الفعل السريع لصاحب المكتبة على رؤيتي واقفا أمامه، حيث بادر الى اخراج نسخ كتابي العشر من تحت الطاولة وأعادها الي كمن يتخلص من قنابل موقوتة ستنفجر بين يديه بعد قليل. وعندما خلت المكتبة من الزبائن، بدأ يتحدث الي بصوت منخفض عن دورية مخابرات داهمت مكتبته البارحة:
-هذه كتبك، أعيدها لك، والحمدلله أنهم لم يصادروها. منعوا تعليق الكتب الكردية في الواجهة أو بيعها. وقد صادروا جميع نسخ كتاب تاريخي فقط، يبدو أنهم كانوا يبحثون عن مؤلف هذا الكتاب الخطير.
التفت حوله بحذر شديد، كمن يبوح بسر عميق:
-اسمع، اذا كنت تعرف صاحب هذا الكتاب، وهو كردي مثلك، فأخبره بأنهم يبحثون عنه وقد سألوني عن عنوانه ومكان سكنه، ولا أدري ان كان يسكن في حلب. وفي كل الأحوال، حرام، يتوجب تبليغه ليحتاط لمثل هذا الأمر.
وانتظرت بفارغ الصبر أن يبوح لي باسمه لأقوم بالواجب، فأكمل الحديث مستعجلا قبل أن يدخل أحد الزبائن الى المكتبة:
-اسمه محمد أمين زكي، صاحب كتاب سميك ‘خلاصة تاريخ الكرد وكردستان’ وقد صادروا جميع النسخ الموجودة عندي.
ولحسن حظ محمد أمين زكي، المؤرخ الكردي العراقي، وربما لسوء حظ المخابرات السورية أيضا أنه كان قد مر على وفاته أكثر من أربعين سنة. توفي تحديدا في العام 1958. وعدت ذلك اليوم مع تسعة موتى من ‘موتى لا ينامون’، حيث كان عاشرهم محمد أمين زكي الميت الذي يغرق فيالعراق في نوم عميق ورجال المخابرات لا ينامون بسبب البحث عنه في سوريا.
وفي العام 1998 كنت في استانبول بناء على دعوة مركز مزوبوتاميا الثقافي، بمناسبة مرور مائة عام على صدور أول صحيفة كردية، ولحضور العرض الأول لمسرحية ‘جمهورية المجانين’ المأخوذة من احدى قصصي التي تحمل نفس العنوان. وفي طريق العودة الى سوريا قررت جلب مائة نسخة من ‘الرجل الحامل’ الذي كان قد صدر للتو بالكردية من استانبول الى حلب. وقد حملت النسخة الكردية الرسومات الداخلية نفسها التي نشرت في الطبعة العربية منها وهي للفنان أحمد معلا. ومررنا من الجانب التركي بسلام وعلى الجانب السوري من الحدود طلب منا أحد رجال الجمارك أن نصطف الى جانب أغراضنا التي أنزلها السائق ومعاونه من الباص. لفت نظري أنني الوحيد الذي كانت بضاعته كتبا والبقية بطانيات وشاي وأجهزة الكترونية. لم يتمكن رجل الجمارك الفخور بزيه العسكري من قراءة كتابي فاكتفى بالتمعن في الرسومات الداخلية وقد استوقفته رسومات الأجساد العارية، وتمعن النظر فيها لدى حمله لكل نسخة من الكتاب. وسأل دون أن يرفع رأسه:
– لمين الكتب هاي؟
- لي.
– شو هالكتب؟
- هذه مائة نسخة من كتاب لي، مترجم.
- كتاب عن شو؟
- كتاب أدبي، قصص قصيرة، أدب يعني.
- شو يا عمي، بدك تعبي سوريا كتب سيكس وعمتقللي أدب!
قالها بازدراء وعيناه استقرتا على كومة البطانيات الملقاة الى جانب الكتب:
– لمين البطانيات.
وأخبرني صاحب البطانيات فيما بعد شاتما الجمارك بأنه دفع لهم ما يعادل سعر شراء البطانيات حتى سمحوا له بادخالها. قالها وهو يحسدني على نوعية بضاعتي التي أدخلتها الى سوريا دون أن أدفع لهم شيئا. وسألني فيما اذا كانت تجارة الكتب مربحة كتجارة البطانيات. فقلت له، بأن نقل مثل هذه الكتب عبر الحدود هو أقرب الى مغامرة شبيهة بالانتحار منها الى التجارة. لم يفهم الرجل ما قلت له، ولا أعتقد أن درجة الحمق لديه ستدفعه الى التفكير بنقل الكتب بدل البطانيات عبر الحدود في المرات القادمة. كل ذلك لا يهم، ما أسعدني أنني وبرفقة مائة ‘رجل كردي حامل’ عبرت الحدود ذلك اليوم بسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق